أتحفنا سياسيونا المُخضرمونَ في تَذاكيهِم في مَعرَضِ إدارَتِهِم لشُؤونِ الدَّولَةِ على امتِدادِ العُقودِ الثلاثةِ الأخيرَة، بحيث أوصَلونا إلى دَولَةٍ مُهتَرِئةٍ مُتهالِكَةٍ مُفلِسة. ومع عِلمنا أن تَعبيرَ الإفلاسِ كمُصطلحٍ يُستَعمَلُ حَصراً لتَوصيفِ الشَّرِكاتِ والتُّجارِ المَعسِرينَ وبالتَّحديدِ غيرِ القادِرينَ على الإيفاءِ بالموجِباتِ الماليَّةِ المُستَحِقَّة عليهم، وهو غير مُعتَمَدٍ في أدَبِيَّاتِ توصيفِ أوضاعِ الدُّوَل، ولم يَسبق ان استُعمِلَ رَسْمِيَّاً في المَواثيقِ الدَّولِيّةِ ولا حتى في أعرافِها، مؤخَّراً شاعَ استُعمالُ هذا المُصطَلَحِ بصورَةٍ غير رَسمِيَّةٍ في أدَبِيَّاتِ المُحلِّلين السِّياسيين والاقتصاديين والماليين لتَوصيفِ بعضِ الدُّولِ المُعسِرَةِ مالِيَّا وبالتَّحديدِ التي أظهَرَت عَجزاً أو أعلَنَت أنها عاجِزَةٌ عن الإيفاءِ بالتِزاماتِها المالِيَّة الدَّولِيَّة من دُيون وقُروضِ وهِباتِ مُستحَقَّةِ عليها. وفي هذا الإطار لم يَعُد بخافٍ على أحَدٍ وَضعُ الدَّولَةِ اللُّبنانِيَّةِ التي أعلَنَت صَراحَةً عن عَدَمِ قُدرَتِها على إيفاءِ التِزاماتِها المالِيَّةِ الدَّولِيَّةِ حتى بَدَت وكأنَّها غير قلا يقبل الشكادِرَةٍ عن دَفعِ الفَوائدِ المُستَحَقَّة، بعد أن لَجأت وبالتَّوافُقِ مع الجِهاتِ الدَّائنَةِ إلى إعادَةِ جَدوَلةِ الدُّيونِ أكثَرَ من مَرَّة، وأضحَت تَستَجدي الحُصولَ على قُروضٍ بَسيطَةٍ لتَدبيرِ بَعضِ الأُمورِ المُلِحَّة.
لبنانُ كدَولةٍ غَنيٌّ بإمكاناتِهِ البَشرِيَّةٍ التي لا تُقدَّر بثمن، كما بثَرواتِهِ الطَّبيعِيَّة، ومَوقِعِهِ الجُغرافي، والتي فيما لو اُحْسِنَ استِثمارُها، لكانَ لُبنان من أكثرِ الدُّولِ ازدِهاراً، لبنانُ للأسَفِ لم يَعرِفِ الاستِقرارِ السِّياسي والاقتِصادي منذُ نشأتِه، إذ غَالباً ما كانَ وضعُهُ مُتأرجِحاً ما بينَ النُّهوضِ والتَّعَثُّرِ، ولكنَّهُ على الرَّغمِ من كُلِّ المِحَنِ التي مَرَّ بها، لم يَسبُق أن وَصَلَ وَضعُهُ إلى هذا المُستوى من التَّأزُّم والإعسارِ المالي الذي نَشهَدَهُ اليومَ، حتى في ظِلِّ الحُروبِ الدَّاخِلِيَّةِ والاجتِياحاتِ الإسرائيلِيَّة المُتعاقبة. ويُعزَى كُلُّ ذلك إلىِ الأداءِ السِّياسِي الرَّديء والمتعثر الذي تُردُّ إليهِ مغظَمُ مُعاناةِ اللبنانيين وتنازُعِهِم مع بعضِهم البعض، الأمرُ الذي فوَّتَ الكثيرَ من فُرَصِ النُّهوضِ في مُختلِفِ المَجالات.
لبنان الدَّولَةِ لا يَقتصِر تَعثُّرُهُ على الجانِبِ المالي فَقط، بل هو مُتعَثِّرٌ سِياسِيَّاً واقتِصادِيَّاً ومالِيَّاً واجتِماعِيَّاً وثقافِيَّاً وتَربَوِيَّا وصُحِّيَّاً…الخ، وإن أرَدنا استِعمالَ مُصطَلَحِ الإفلاس لكونهُ يَليقُ بوضعِهِ اليومَ بكلِّ ما للكلِمةِ من مَعنى، لأنَّ الثِّقةَ بالدَّولةِ اللُّبنانِيَّةِ اهتَزَّت دَولِيَّاً ومَحلِّيَّا، وخاصَّةً أن الدَّولَةَ لم تَعُد قادِرَةٌ على الحِفاظِ على تماسُكِها، ولا الحِفاظِ على سِيادَتِها واستقلالِ قراراتِها، ولم تعُد قادرةً على تلبِيَةِ أدنى الموجِباتِ المُترتِّبَةِ عليها تِجاهَ المُجتَمَعِ الدَّولي كما تِجاهَ شَعبِها، بدءاً بموجِبِ الحِمايَةِ انتِهاءً بموجِبِ تَوفيرِ مُقتَضَياتِ العَيشِ بكَرامَة. أسبابُ التَّعثُّرِ في أداءِ الدَّولةِ كثيرةٌ ومُتنوِّعَةٌ ومُتشعِّبةٌ، ولكن يَجمَعُ في ما بينها أمرٌ واحِدٌ يَتمثَّلُ في الافتِقادِ إلى المَعاييرِ المُتجرِّدةِ التي تُعتبرُ العُنصُرَ الأساسَ في بِناءِ الدُّولِ وإدارَةِ شؤونِها.
غرضُنا من استِعارةِ مًصطَلَحِ الدَّولَةِ المُفلِسَةِ يتمثَّلُ في الإستِرشادِ بالمبادئ والأسُسِ التي يُرتكزُ إليها في إدارةِ الشَّرِكات المُفلِسَة، إذ يُصارُ إلى رَفعِ يدٍ المَسؤولينَ عن الشَّرِكةِ كونَهُم لم يَكونوا جَديرينَ بتولي أعمالِها (وبالتَّالي لانعدامِ الثِّقَةِ بهم)، ويُكلَّف وكيلُ تِفليسَةٍ (خبير) لإدارَةِ أعمالِ الشَّرِكَةِ المُعلَنِ إفلاسُها، كما يُعادُ النَّظَرُ بجَميعِ الأعمالِ والقَراراتِ التي قامَ بها المَسؤولونَ أو اتَّخَذَوها خِلالَ ما يُسمَّى بِفترَةِ الرَّيبَة وتوزيعِ ما تبقى من أرصِدتِها وأموالِها بعدل وإنصافٍ على مجموع الدَّائنين، وبالقِياسِ على ذلكَ نَستَخلِصُ أن النُّهوضَ بالدَّولةِ يبدأ بكَفَّ يَدِ كُلِّ من سَاهَمَ بإدارتِها على الأقلِّ خِلالَ العُقودِ الثلاثةِ الماضِيَة، وتَكليفِ مَجموعَةٍ من الخُبراءَ المُتخصِّصينَ لإدارَتِها خِلالَ فَترَةِ انتِشالِها من مأزَقِها ولحين تعافيها ووَضعِها على سِكَّةِ النُّهوضِ (حُكومَةُ نُهوض وطني). والخطوةُ التاليَةُ تكونُ بتَجميدِ مَفاعيلِ كُلِّ القراراتِ والإجراءاتِ المُتَّخَذَةِ خِلالَ فَترَةِ الرَّيبَة، والتي ينبغي أن تَكون بالنِّسبَةِ للدُّولِ ما بين ثلاثِ أو خَمس سَنواتٍ التي سَبَقت انكشافَ حالَةُ التَّعَثُّرِ، أي السنوات الخمس السابِقَةِ لعام 2019، وبخاصَّةٍ في المَجالاتِ الاقتِصادِيَّةِ والماليَّةِ والنَّقدِيَّة.
قد يقولُ قائلٌ إن مثلَ هذا الأَمرِ أضحى مُتأخّراً أو يفترضُ تَجاوُزُهُ على ضَوءِ ما أسفَرَت عنه الانتِخاباتُ النِّيابيَّةُ التي كرَّست هيمَنَةِ الحُكَّامِ المُتَحكِّمينَ في مفاصِلِ الدَّولةِ، وعلى أقلِّ تَقديرٍ أسدَلَت عليهِم سِتارَ المَشروعِيَّة، إلاَّ أن هذا القولِ مَردودٌ لأن الانتِخاباتِ التَّشريعيَّةِ جاءت بصورتِها الحاليَّةِ نتيجَةَ إقدامِ الطَّبَقَةِ الحاكِمَةَ بتَفصيلِ قانونِ الانتِخاباتِ على مَقاساتِ أركانِها، هذا بالإضافَةِ إلى مَنطِقِ التَّهديدِ والوَعيدِ والتَّهويلِ والإكراهِ الجَسَدي على مرأى ومَسمَعٍ من أجهِزَةِ إنفاذِ القانون، والهَيئةِ المُكلَّفةِ بالإشرافِ على حُسنِ إجراءِ الانتِخاباتِ ونزاهَتِها، والتي اقتَصَرَت مُلاحَظاتٌها على أُمورٍ تافِهَةٍ على هامِشِ مَسؤوليَّاتِها الرَّئيسِيَّة. وعليه أضحى من الموجِبِ إذَن تشكيلُ الحُكوماتِ القادِمَةُ من خَبراءَ غيرِ مَصبوغِينَ بتوجُّهاتٍ سِياسِيَّة ثبُتَ عقمُها.أشخاصٌ مَشهودٌ لهم بانتِمائهِم الوَطَني اللَّاطائفي واللاحِزبي وبكفاءتِهِم المِهَنِيَّةِ، وقَبلَ كُلِّ ذلكَ بقدرتِهم على مُجابَهَةِ الضُغوطِ والإملاءاتِ والتَّوجِيهاتِ المُعلَّبَة فِئوِيَّا.
وإذ نُصوِّبُ على الأداءِ لا على أشخاصٍ بِعَينِهم حِرصاً مِنَّا على الموضوعِيَّة، والبُعدِ عن التَّطاولِ بالشَّخصي، لأن الأداءَ السِّياسيَّ خِلالَ العُقودِ الثلاثةِ الفائتةِ كانَ بالتَّكافُلِ والتَّضامُنِ بين مُختلِفِ المُكوِّناتِ السِّياسِيَّةِ التي تحاصَصَت المَغانِم، ولكنَّها اليومَ تَتَقاذَفُ المُسؤوليَّاتِ مُحاوِلَةً تلميعَ صورَتِها بالتَّبرُّءِ من مُساهَماتِها حِيناً ومن سُكوتِها أحيانَ أُخرى، ومُبارَكًتِها لبَعضِ التَّوجُّهاتِ طَوراً وتَعاميها عن بَعضِها أَطواراً أُخرى. أداءٌ هابِطٌ بكُلِّ المَعاييرِ السِّياسِيَّةِ الإدارِيَّةِ والأخلاقِيَّة، أقلُّ ما يُقالٌ فيه أنَّهُ صادِرٌ عن جِهاتٍ لا تَتحلَّى بالحَدِّ الأدنى من المَسؤولِيَّةِ أو الحِسِّ الوَطَني. أداءٌ قامَ على تَحقيقِ المصالِحِ الفِئويَّةِ والخاصَّةِ من خلالِ التَّفريطِ بالثَّرواتِ الوَطَنِيَةِ والقَضاءِ على الثَّرواتِ الطَبيعِيَّة، ونَهبِ أموالِ الدَّولة، والسَّطوِ على أموالَ المودِعيينَ في المَصارِف، وإساءَةِ استِغلالِ الدُّيونِ والقُروضِ والهِباتِ واستِثمارِها في مَشاريعَ غيرِ مُجدِيَةٍ، إنما فقط لأنها تُتيحُ لَهم المَجالَ لاختِلاسِ الحَيِّزِ الأكبَرِ من الأَموالِ المُرصَدَةِ لها. وأخطرُ ما يواجِهه وطننا اليومَ يتمثَّلُ في تنطُّحِ تلك الزُّمَرِ وتَبشيرهاِ بمَساعيها الإصلاحِيَّةٍ، والتي تُحاولُ من خلالِها تَسويقَ نفسَها وكأنَّها تخلَّت عن سُلوكِيَّاتِها، موحِيَةً بأنَّها تَحمِلُ طُروحاتٍ مُبتَكرَةٍ لا مَفرَّ منها، مُترجمةٍ بخُطَطِ جَديدَةِ وبرامِجَ مَضمونَة النتائج.
كُلُّ ذلك يَحصُلُ والشَّعبُ اللبنانيُّ المَقهورُ يَقِفُ مُتفرِّجاً حِيالَ كُل ما يُحاكُ ضدَّهُ من مؤامَراتٍ، وجُلَّ ما نَشهَدُهُ من اعتِراضاتٍ تَقتَصِرُ على بَعضِ المَنشوراتِ والمُقالاتِ والمُقابلاتِ التي أضحَت ممجوجة، ومَفاعيلُها أشبَه بدُعاءِ الثَّكالى على ظلاَّمِهِم، وتَضرُّعِهم إلى الله عَزَّ وجَلَّ للإنتِقامِ منهُم.
أيُّها اللبنانيون، أما آن الأوانُ بعد لأن تَعوا مَخاطِرَ المَسارِ الجَهَنَّميَّ الذي يَدفعُكُم إليه المُتَسلِّطونَ عليكُم، والمُتَحكِّمونَ بمُقدّراتِ بَلدِكُم؟ أما آن الأوانُ بعد لأن تَتَحرَّروا من نيرَ عُبودِيَّةِ الأشخاصِ الذي تَنقلونَهُ بالتَوارثِ من رِقابِكُم إلى أعناقِ أبنائكُم؟ أليس حريّاً بكم أن تَعوا أن انهيارَ الدَّولَةِ جاءَ نِتاجَ التَّزاكي في هَدرِ مُقوِّماتِ صُمودِها والتَّعامي عن مُرتكزاتِ النُّهوضِ بها. نعم إنه لمَسارٌ جهنميَّ التَّوجُّهِ، يَقومُ على مَنهجينِ مُتكاملين من الأداءِ السِّياسِي اوصلانا مُجتمعين إلى ما نحنُ عليه، ويَقودانا مُكرَهينَ إلى وضعٍ كارثيٍّ لم يَسبِق أن شَهِدَت البَشريَّةُ مثيلاً له، الأولُ يقومُ على فَذلكاتٍ أدَّت إلى تَقويضِ هَيبَةِ الدَّولَةِ واستِقرارِها ونَهبِ ثرواتِها وخَيراتِها، ومُدَّخراتِ أبنائها، أما الثاني فيَقومُ على خُزعبلاتٍ سَتُؤدي حَتماً إلى تَقويضِ كُلِّ فُرَصِ النُّهوضِ ومقوِّماتِهِ إن استَمرَّيتُم كشَعبِ في ساكتينَ عَنها، وراضخِين لإملاءاتِ الحُكامِ المُتحكِّمين بِكُم.
من أوجُهِ أداء سياسيينا الذي يقومُ على التَّزاكي: اعتِمادُ شِعارِ الحُكوماتِ التَّوافُقيَّةِ لتشويه المُمارسةِ الدِّيمقراطيَّة، ومن ثمَّ الميثاقِيَّةِ لتَكريسِ أنفُسِهِم كمَرجعيَّاتٍ لطوائفِهم ومذاهِبِهم، والثلث المعطل لشل الحُكومات، ومن أجلِ تحكُّمِهم بمساراتِ الأمورِ والقضاء على القِطاعاتِ الاقتِصادِيَّةِ الأساسِيَّة؛ وتَهميشُ دورِ أجهِزَةِ الرَّقابَة، والقضاءُ على استقلاليَّةِ القضاءِ؛ والإخلالُ بمَبدأ التَّوازُنِ في الموازناتِ السَّنويَّة؛ وصَرفُ النَّظرِ عن إجراءِ الحِسابِ الخِتامي وأهمالُ عَمَلِيَّةِ قَطع الحِساب؛ واعتِمادُ مُوازناتٍ صُوَرِيَّةٍ والمُبالَغَةُ في الاستِدانةِ؛ وطلبِ القُروضِ والهِباتِ؛ والإمعانُ في الإنفاقِ غيرِ المُجدي؛ والصَّرفُ خارِجِ إطارِ قاعِدَةِ الإثني عَشَرِيَّة؛ والتَّوظيفُ العشوائي؛ والتَّعيينُ خارِجِ إطارِ مَعاييرِ الكفاءَةِ والنَّزاهَة؛ والإلتِفافُ على أراءِ ومُطالعاتِ هيئةِ القضايا، ومجلِسِ شورى الدَّولةِ ومَجلِسِ الخَدمَةِ المَدَنِيَّة وتعطيلُ دَورِ الأخيرِ بتتعيين المَحسوبين والمُقرَّبينَ، والاستِعاضَةُ عن التَّوظيفٍ بجحافلٍ من المُتعاقدين غير الكفوئين؛ والتَّغاضي عن السِّلاحِ المُتفلِّت، وتجاوزُ صَّلاحِياتِ الأجهزةِ وتداخُلِها مع بَعضِها خارِجِ إطارِ روحيَّةِ القوانين، واحتِكارُ المناصِبِ الدُّستوريَّةِ في الأكثرِ تَمثيلاً في طائفتِه أو مَذهَبِهِ لا في وَطَنِه، وابتِداعُ مَقولاتٍ شعبويَّة كالرَّئيس القَوي والمَسؤولِ الأكثرِ تَمثيلاً بطائفتِهِ، علماً أننا لم نجنِ من كُلِّ ذلك سِوى تعطيلٍ وشَلَلٍ للمُؤسَّساتِ والإداراتِ المَرافِقِ العامَّة .
أمَّا أوجُهِ أدائهم الذي يقومُ على التَّغابي فهو مُتنوعٌ أيضاً، ومن صُوَرِه: إقفالُ المَصارِفِ لفَترَةِ أُسبوعٍ الأمرُ الذي مَكَّن المُساهِمينَ وكِبارِ المودعينَ والنَّافذين في الدَّولةِ من تحويل أموالِهم إلى العُملاتِ الصَّعبَةِ وَفقَ السِّعرِ الرَّسمي، ومن ثمَّ تَهريبِها إلى الخارِجِ، كما سِياساتُ الدَّعمِ غَيرِ المَدروسَةِ التي أدَّت إلى تَبذيرِ ما لدى المَصرِفِ المَركَزي من احتياطيٍّ نَقدِيٍّ من العُمُلاتِ الأجنَبِيَّةِ والوَطَنِيَّة، ومن ثمَّ تلاها ابتِكارُ تَعدِّدِ أنماطِ تَسعيرِ العِملةِ الوَطَنِيَّةِ ما بين سِعرٍ رَسميٍّ وسِعرِ السُّوقِ السَّوداء، وسِعر اللولار، وسِعرِ صَيرَفَةِ، وتعاميمُ التَّصريفِ على أساسِ هذه التَّسعيرَة، ما أدَّى إلى تَمكينِ بَعضِ كِبارِ التُّجارِ والمُحتَكرينَ والمُتموِّلينَ من التَّلاعُبِ في الفواتيرِ والأَسعارِ لتَهريبِ أموالِهم للخارِجِ، أو لتَحقيقَ ثَرواتٍ طائلَةٍ نتيجَةَ احتِكارِ السِّلعِ الأساسِيَّةِ وارتِفاعِ أسعارِها أو عَبرَ تَهريبِ المَوادِّ المَدعومَةِ إلى خارِج لبنان، وسِياساتُ تَجويعِ القِطاعِ العامِ والتَّمييزِ بينَ مُكوِّناتِه، ومُحاولاتُ إلهاءِ الرَّأي العامِّ بأُمورٍ سَطحِيَّةٍ والتَّعامي عن الأُُمورِ الجََوهَرِيَّة، والأخطَرُ من كُلِّ ذلكَ الاعتِمادُ كُلِّيَّاً على الشَحادَةِ واستِجداءِ المُساعَداتِ من الخارِجِ واستِرضاءُ البنكِ الدَّولي بَدَلاً من التَّركيزِ على مُقوِّماتُنا الاقتِصاديَّةِ الوَطَنِيَّة والبناءِ عليها بالتَّنسيقِ مع البنك الدَولي، وعدمِ الخُضوعُ كُلِّيَّاً لشروطِهِ وطَلَبِ رِضاه، وغيرُ ذلك من السِّياساتِ التَّرقيعِيَّةِ المُرتَجَلَةِ غَيرِ المَجسوبَةِ النتائج.
وأخلُصُ من كُلِّ ذلك للقَولِ بأن تسليمَ الشَّعبِ لقدَرِهِ ومُستقبلِ أجيالِهِ لزُمرٍ ثبُتَ فَشَلُها، واتَّضحَت مآثِرُ إنجازاتِها جرَّاءَ مُشارَكَتِها في السُّلطَةِ لردحٍ من الزَّمنِ من دونِ مُساءلةٍ أو مُحاسَبَةٍ، أضحى من قَبيلِ الاستِهتارِ والخُنوعِ والاستِسلامِ، خاصَّةً وأن أدبيَّاتِها الوَطنيَّةِ والإنسانِيَّةِ والأخلاقيَّة أضحت مكشوفةً ولا تنطلي على أبسطِ البُسطاء، والتي توحي جُميعُها وبما لا يقبل الشك أنهم ليسوا أهلاً للثِّقَة، وقد خَذَلَوا الوَطَنَ والمُواطِنينَ وأوصلوهم إلى ما هم عليهِ من عَوزٍ وإذلال. وأنه لا حُلولَ إلاَّ بمُحاسَبَةِ المُخلين والمُرتكبينَ منهم، سواء كانوا من ناهبي الثرواتِ الوطنِيَّة أو المُقرصنين على الأملاكِ العامَّةِ أو مُختَلِسي الأموالِ العامَّة، والعملُ على استِعادَةِ كُلِّ الأَموالِ المُهرَّبَةِ للخارِج والتَّحقُّقِ من مَدى مَشروعِيَّةِ مَصادِرِها، إلاَّ أن تلك الحُلولِ تتطلَّبُ منا كَشعبٍ الوقوفَ صفاً واحِداً وَقَفَةَ عزٍّ وإباء، بعيداً عن التموضعِ الفئوي، ورَفضاً لِكُلِّ أشكالِ الخُنوعِ والاستِسلامِ، لأن الحُقوقَ تُفرَضُ ولا تُستَجدى.