IMLebanon

الدولة المتهاوية والحزب المستقوي عليها

لم تقم في لبنان منذ حصوله على استقلاله في العام 1943 دولة بالمعنى الحقيقي للدولة فهو يمر منذ ذلك التاريخ في أزمات شبه متواصلة. ويعيش اللبنانيون في قلق واضطراب وعدم استقرار، نتيجة صراع قياداتهم السياسية على السلطة، وتنافسها على المغانم، والتحاقها بمحاور خارجية، وعدم بنائها دولة حقيقية ترتكز على مؤسّسات فاعلة وقضاء مستقل وعدالة اجتماعية وقوى أمنية وعسكرية قوية.

 لقد شهد لبنان في العام 1952 انتفاضة شعبية سلمية ضد رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري عنوانها المعلن انتفاضة ضد الفاسدين من أقربائه وأتباعه، قادها بعض السياسيين الذين فقدوا نفوذهم في عهده، وانتهت بتقديم استقالته. وبعدها بستة أعوام، في عهد رئيس الجمهورية كميل شمعون، حصلت انتفاضة مسلحة دامت ستة أشهر، سماها البعض ثورة، بين قوى معارضة لشمعون كان أسقط قياداتها في انتخابات نيابية مزورة بهدف تجديد ولايته ومؤيدة للزعيم المصري جمال عبد الناصر من جهة، وقوى يمينية مؤيدة لشمعون و»حلف بغداد» الذي أقامته الولايات المتحدة من دول إقليمية حليفة لها من أجل مواجهة الاتحاد السوفياتي وحليفه عبد الناصر من جهة أخرى. وأدت الانتفاضة إلى شرخ بين مكوني المجتمع اللبناني، المكون المسلم المؤيد لثورة عبد الناصر وتطلعاته القومية العربية وأهدافه الوحدوية، والمكون المسيحي المناوئ له والخائف من ذوبان لبنان في وحدة عربية.

 واستقرت الأوضاع بعدها خلال رئاسة اللواء فؤاد شهاب للجمهورية التي أتت نتيجة صفقة أميركية – مصرية. لكن ما لبثت الاضطرابات والتجاذبات أن عادت إلى الساحة اللبنانية بعد هزيمة العرب من الإسرائيليين في العام 1967، وانتشار المنظمات الفلسطينية المسلحة في لبنان وامتداد نفوذها على مساحة واسعة منه، ما ألهب المشاعر الإسلامية المؤيدة للثورة الفلسطينية والمسيحية المناهضة لها. وتسارعت الأحداث حتى وصلت إلى حرب أهلية في العام 1975 بين المسلمين الذين ثاروا على «المارونية السياسية» مستندين إلى الفلسطينيين من جهة، والمسيحيين بدعم من الإسرائيليين من جهة ثانية. وانتهت الحرب، التي دامت خمسة عشر عاماً سقط فيها مئة وخمسون ألف قتيل بـ»اتفاق الطائف» الذي أنهى الحرب وأعاد السلام إلى لبنان، والتوازن إلى مكوناته الوطنية.

 ولم ينجح اتفاق الطائف في بناء دولة حرة عادلة قوية وقادرة مرتكزة على المؤسّسات الفاعلة والإنماء المتوازن، لأن قيام مثل هكذا دولة يلغي سيطرة سلطة الوصاية السورية، التي أوكل إليها الاتفاق الحفاظ على السلم الأهلي، على قرار لبنان ومؤسّساته الرسمية والعامة ومقدراته المالية. ولم تفلح جهود رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري في الحد من هذه السيطرة، نتيجة الدعم العربي والدولي لسلطة الوصاية ووجود قوى وقيادات لبنانية متحالفة معها، إما لغايات سياسية أو لمصالح خاصة.

 وكان «حزب الله» أكبر القوى وأرسخها تحالفاً مع سورية، نتيجة علاقة الأخيرة الاستراتيجية المميزة بإيران، وهو الحزب الذي يتمتع مع إيران بعلاقات دينية وسياسية صلبة. واستطاع الحزب من خلال هذه العلاقة تأمين غطاء شرعي له، في إقامة مربعات أمنية خاصة به والتزود بالسلاح عبر الحدود ونقله إلى مناطق عدة في الداخل اللبناني من دون حسيب أو رقيب. حتى أصبح الحزب يضاهى في قوته وتسليحه الجيش اللبناني.

 واعتقد اللبنانيون أن انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في أيار العام 2000 نتيجة المقاومة اللبنانية والضغوط الدولية والإسرائيلية الداخلية سيؤدي إلى انكفاء «حزب الله» عن العمل المسلح وانخراطه في العمل السياسي، لكنهم ما لبثوا أن فوجئوا بتمسك الحزب بسلاحه متذرعاً ببقاء مزارع شبعا وتلال كفر شوبا تحت الاحتلال الإسرائيلي كونها تتبع وفق الأمم المتحدة القرار الرقم 425. ويحتاج تحريرها وخروجها من هذا القرار إلى وثيقة رسمية من الدولة السورية تؤكد لبنانية هذه المناطق، لكنها ورغم كل المناشدات اللبنانية لم تفعل ذلك، كما لم يساهم الحزب في هذا الأمر.

 وتحول «حزب الله» بعد انسحاب إسرائيل من الجنوب إلى الداخل اللبناني، مستخدماً سلاحه في ترهيب اللبنانيين وتهديدهم وفرض أجندته عليهم وعلى الدولة. وأصبح بمثابة سلطة وصاية أخرى على البلد في يده قرار الحرب والسلم. ولم يكتف بتهديد اللبنانيين بل شاركت عناصر منه في قتل قيادات وطنية وإعلامية سيادية في العام 2005 وفي مقدمهم الرئيس الشهيد رفيق الحريري التي تشير المحاكمات الجارية في المحكمة الدولية في لاهاي إلى تورط هذه العناصر وربما بعض المسؤولين الكبار في الحزب في جريمة العصر.

 وأدى تهور الحزب بخطف جنديين إسرائيليين في تموز العام 2006 إلى استشهاد مئات اللبنانيين وتدمير هائل في البنى التحتية والفوقية والاقتصادية. وأصبح بعد حرب تموز وتمركز قوات الـ»يونيفل» جنوب نهر الليطاني وفق القرار الرقم 1701 وهدوء الحدود مع إسرائيل، اللاعب الرئيس على الساحة الداخلية، وانخرط، بصفته الذراع العسكري لإيران، في تنفيذ سياستها وأهدافها في الإقليم. ولن تنسى بيروت يوم 7 أيار العام 2008 المشؤوم حين غزاها الحزب، والذي اعتبره الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله يوماً مجيداً، بينما يعتبره أهل بيروت وشرفاء لبنان يوم غدر وعار.

 ولم يأبه الحزب للأصوات المخلصة التي كانت تدعوه إلى التعاطي مع القضايا الوطنية بمنظار لبناني وليس بمنظار إقليمي وتحديداً إيراني. فانخرط في قضايا الإقليم الملتهبة، منقلباً على موافقته على «إعلان بعبدا» في تحييد لبنان عن مشكلات المنطقة، فأرسل مقاتليه إلى العراق دعماً لحكومة نوري المالكي ذات النهج الطائفي والولاء الإيراني، وإلى سورية للقتال إلى جانب النظام المتآمر على شعبه، والخبراء وربما المقاتلين أيضاً إلى اليمن مسانداً الحوثيين في انقلابهم على الشرعية، وكل ذلك كان بتوجيه من طهران التي تعمل على ترسيخ نفوذها في المنطقة العربية من خلال الميليشيات الشيعية المتحالفة معها، وفي مقدمها «حزب الله».

ويتابع الحزب مسيرته المناهضة لتطلعات غالبية اللبنانيين، فهو ما زال يعطل انتخابات رئاسة الجمهورية التي مضى على شغور موقعها سنة وثلاثة عشر شهراً مختبئاً وراء مطلب رئيس «التيار الوطني الحر» النائب ميشال عون بأحقيته في هذا الموقع، بينما يعود وقوف الحزب إلى جانب عون وتشجيعه على المضي في ترشحه إلى إبقاء ورقة رئاسة الجمهورية في يد طهران تستخدمها في مفاوضاتها مع الدول الكبرى من أجل تعزيز مكانتها ونفوذها في الإقليم.

ولم يكتف «حزب الله» بتعطيل انتخابات الرئاسة الأولى بل عمد إلى استغلال حواره مع «تيار المستقبل» وهدوء الساحة الداخلية نسبياً إلى تعزيز «سرايا المقاومة» وهي ميليشيا متفرعة منه مكونة من عناصر تنتمي إلى بيئة من غير بيئته. وقد كان للسرايا دور في إثارة الاضطرابات في أكثر من منطقة تعتبر موالية أو قريبة من «تيار المستقبل» ورافضة لمواقف الحزب وتصرفاته. ويستخدم الحزب في هذه الأيام السرايا في تحويل التظاهرات السلمية في وسط بيروت، احتجاجاً على تدهور الخدمات العامة وفشل السلطات السياسية المتعاقبة في إيجاد حلول جذرية لها، وخصوصاً النفايات المتراكمة في كل المناطق اللبنانية، إلى شغب واعتداءات على القوى الأمنية والمؤسّسات الرسمية والممتلكات العامة والخاصة.

وهناك علامات استفهام عدة حول أهداف الحزب من استغلال التظاهرات منها، الضغط على الحكومة من أجل تلبية مطالب عون ولو أدى الأمر إلى تعطيل أعمالها، وإثارة الاضطرابات في الساحة اللبنانية وصولاً إلى فرض رئيس للجمهورية يكون للحزب الكلمة الأولى في انتخابه، ورسالة إيرانية إلى المملكة العربية السعودية كي تجلس مع إيران على طاولة المفاوضات من أجل تقسيم النفوذ في المنطقة العربية، باعتبار أن الحكومة اللبنانية هي أقرب في سياستها إلى الرياض منها إلى طهران.

وبالعودة إلى إيران فقد أدت سياسة قائد الثورة الإيرانية الإمام روح الله الخميني في تصدير الثورة الإسلامية إلى خارج إيران، وتدخل طهران السافر في الشؤون الداخلية لبعض الدول العربية وإقامتها ميليشيات مسلحة فيها، إلى تأجيج النعرات المذهبية على امتداد العالم العربي. ويعتبر «حزب الله» في لبنان أحد هذه الميليشيات التي أنشأتها طهران من أجل تنفيذ سياستها التوسعية في المنطقة، وتحقيق حلمها في إقامة الإمبراطورية الفارسية.

واستخدمت إيران ورقة الاضطرابات والنعرات المذهبية التي أوجدتها في المنطقة العربية في مفاوضاتها حول ملفها النووي مع الدول الخمس + واحد. وحققت في اتفاق فيينا النووي الذي على الرغم من لجمه طموحاتها النووية، الاعتراف بها كحارس للتوازنات الإقليمية المستقبلية به ترتسم ملامح الشرق الأوسط الجديد. وأكثر المستفيدين من الاتفاق هي الدول التي شاركت فيه، إذ أنه فتح الباب واسعاً في المنطقة أمام سباق الحصول على التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية وشراء الأسلحة التقليدية من هذه الدول، إضافة إلى الاستثمارات المالية الضخمة في مجالات تطوير عمليات استخراج النفط وتكريره وتصديره.

والسؤال: كيف ستكون سياسة إيران بعد الاتفاق النووي، وبمعنى أدق بعد عودتها إلى الشرعية الدولية؟ هل ستساعد على انتخاب رئيس للجمهورية في لبنان؟ وهل ستساهم في الحل السلمي في سوريا وبالتالي إلى خروج «حزب الله» منها؟ وهل ستقبل بهزيمة أنصارها في اليمن؟ أم أنها ستبقى راعية للاضطرابات في المنطقة وداعمة للحركات المسلحة التابعة لها، وفق ما أشار إليه المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي؟ ونأمل بأن يكون الحراك الديبلوماسي الإقليمي والدولي مؤشراً إلى بلورة حلول سياسية للأزمة السورية وأزمات المنطقة الأخرى.

وفي انتظار الحلول لقضايا الإقليم الملتهبة، وفي ظل سلاح متفلت وحرية فوضوية وديموقراطية شكلية ومناخ سياسي ملوث وخدمات متدهورة وإدارات عامة مشلولة واقتصاد على شفا الانهيار يسير لبنان في خطى ثابتة نحو الهاوية.