الدولة اللبنانية في أيامها السود، الأزمات تتراكم مالياً واقتصادياً ومعيشياً، وسوء الادارة يزداد رسوخاً على مستوى الادارة العامة والسياسات التي تدير مصالح الدولة على مختلف المستويات، الانهيار المالي والاقتصادي واقع يعيشه اللبنانيون في يومياتهم، وليس احتمالاً يتحسبون من وقوعه، الخبز والمحروقات، الدولار وتقلباته، انعدام فرص العمل، أزمة استيراد الدواء ومعضلة المستشفيات. المدارس وما يعرفه كل مواطن من وقائع يعاني منها، النهب المنظم والفاضح في قطاع الكهرباء العام والخاص.
هذه الوقائع التي توصف بـ”الكارثية”، وهي كذلك، لا لكونها وقائع تخنق المجتمع والمواطن فحسب، بل لكونها وقائع مستمرة من دون أي علاج أو محاولة لجم تداعياتها من قبل السلطة.
ثمة سلوك لم يتغير هو الاصرار على حماية نظام المحاصصة، أو بوصف أدق الفساد الذي يكمل مسيرة إنهاء ما تبقى من شروط الدولة والقانون، ويقضي على ما تبقى من مساحات الحرية التي تضيق وتضيق وتضيق…
في محطات الأزمات الاقتصادية والمعيشية، كما في كل الدول في العالم الثالث أو المتقدم، تتقدم النقابات، والاتحادات العمالية والنقابية، في لبنان يكاد ينسى اللبنانيون، أن لديهم كياناً يدعى اتحاداً نقابياً عمالياً اسمه الاتحاد العمالي العام. صمت هذا الاتحاد أشبه بصمت القبور.
لم يعد للحيّز اللبناني العام، أو المساحة الدولتية من يدافع عنها، النقابات واتحاداتها باتت في يد السلطة، أما المواطن فلم يعد لديه غير لسانه وإرادته بأن يدافع عن حقه بالوجود والحياة، وحقه في أن يحمي دستور الدولة وقانونها.
هذا الحيّز المتبقي لاعلاء الصوت وللاحتجاج وللتعبير عن فئة المواطنين اللبنانيين، بات عرضة لهجوم شرس من السلطة المتحكمة والمسيطرة. السلطة اللبنانية اليوم مطمئنة لمعادلة الحمايات الطائفية، وهذه المعادلة التي تمنع على أي طرف من أطرافها النيل من الطرف المقابل أو المسّ بما يعتبره “حقّه” في المحاصصة، يفرض على اطراف المعادلة هذه مواجهة كل ما يمسّ بنظام المصالح المشترك لأطراف السلطة.
إستهداف الحريات وحق التعبير عن وصف ما يجري من تدمير، مواجهته بالكتابة وبالموقف وبالتظاهر بات مهدداً، فأن يعلن القصر الجمهوري أنه سيحيل الى القضاء كل من يصف الوضع السيئ والخطير بالسيئ والخطير، هو أشبه بتهمة “التهوين من الشعور الوطني والقومي” التي تعتمدها الانظمة الشمولية ولا سيما نظام البعث في سوريا.
بهذا المعنى ثمة مسار واضح لدى السلطة، ليس في اتجاه الاصلاح أو لجم الفساد، أو محاولة انقاذ الدولة، بل في حماية عملية سقوط الدولة، وسقوط الحيّز الوطني أو المواطني، لمصلحة محميات طائفية ومذهبية، توفر الحماية للمرتكبين واللصوص.
قمع الحريات من خلال إحالة العشرات من المحتجين والمعترضين على السلطة إلى القضاء، السلطة هذه، التي يقر أطرافها بفسادها وبتجاوز مكوناتها للدولة والقانون، الاستئساد على الأفراد من المواطنين، تقابله تغطية وحماية لكل اولئك الذين يتجاوزون القانون في كل وجودهم الامني والعسكري والمافياوي الطائفي.
الحريات في خطر، لأن الاقتصاد في خطر، والمالية العامة في خطر، والليرة اللبنانية في خطر، والمعيشة في خطر، لأن الكفاءة في خطر، والاستقامة في خطر، لأن القضاء صار اداة في يد السلطة ضد المواطنين، ولأن العدل لم يعد أساس الملك، بل الظلم بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية لذا نحن في خطر وفي الحضيض.
بهذا المعنى الحرية هي مدخل موضوعي لأي انقاذ واصلاح، لكن هذه السلطة لا تتقن الا القمع والاستحواذ، لذا المواجهة لا مفرّ منها بين حق الحرية وسلطة الاستبداد، تلك السلطة التي تستخدم الطائفة حيناً، والمقاومة احياناً، والتسلط في معظم الأحيان من أجل بقائها… جلوس ولو على ركام الوطن والدولة.