Site icon IMLebanon

الدولة» تأكل نفسها

ـ ١ ـ

«تحت الاحتلال…»

محامي الحكومة المصرية لم يجد حرجا في هذا الوصف لعلاقة مصر بالجزيرتين (تيران وصنافير).

موثق جلسة المحكمة الإدارية العليا سجل الوصف، واشتعلت المعارك في مواقع التواصل الاجتماعي بين «السخرية» و«الصدمة» من فكرة «الاحتلال المصري» لأرض عاشت في دفاتر الحكومة/وعمليات الجيش/ ومراسلات الدول تاريخا من «المصرية» قبل أن تكون محور اتفاق ينقل ملكيتها إلى السعودية.

والقضية ليست في السبق التاريخي الذي تدافع فيه «الدولة» عن ملكية دولة أخرى لجزء من أراضيها، ولا حتى الدفاع المستميت الى حد استخدام لغة مجازية (الاحتلال هو وضع سياسي له معاير ومواصفات دولية) للتنازل عن ملكية معبر استراتيجي.

القضية في فكرة «الدولة..»، أي دولة؟ وكيف تنظر «الدولة» في مصر إلى أعمدتها الأساسية من «الحدود القومية» إلى «علاقة الحاكم بالشعب» و«الحاكم بالمؤسسات» وبالطبع «شرعية الحاكم…».

الصراع حول «تيران وصنافير» أكبر من «مناكفة» في نظام السيسي، لأنه يتعلق بالعلاقة بين «واقع» الدولة ومستقبلها، بين عبور «أزمة» قد تقترب من الكارثة، وبين طرق الخروج منها، بين انتصار «تحالف البيروقراطية بقيادة المؤسسة العسكرية» وبين فشل التحالف في الحكم.

هنا سر خطورة المعركة حول «الجزيرتين»، وسر عبثية المشهد الذي نرى فيه الدولة ضد نفسها، أو بالأحرى ضد «صورتها عن نفسها» حتى أن أبواق البروباغندا الداعمة للسيسي تستخدم خطاب «التخوين» للمجموعات التي تحارب من أجل إثبات «مصرية» الجزيرتين، بينما تقاتل الدولة من أجل إثبات أن مصر كانت مجرد قوة «احتلال» وأن الأرواح التي دافعت عن الأرض في الحرب ضد إسرائيل، ذهبت دفاعا عن «الاحتلال»… لا عن «الوطنية».

بمعنى آخر، الدولة على لسان محاميها تعترف بأن خطابها الوطني «خرافة» مات بسببها مصريين، كان يمكن أن تستمر حياتهم إذا كانت «الأرض ليست أرضهم» أو أن «التفاوض كان حلا ممكنا…».

العبث عضوي إذن، وليس مجرد «أداء عابر»، فالقتال العنيف من أجل استمرار «الماضي» هو قرار بالدمار الشامل يتخذه المنتصر ضد ذاته… أو بمعنى آخر هو تجسيد لما قلناه من قبل «المنتصر يدفع ثمن انتصاره…».

لكن لم يتوقع أحد أن يكون الثمن مزيجاً من القسوة والعبث كما ظهرت به معركة الدفاع عن «صفقة» تيران وصنافير.

تلك الصفقة التي لم يعرف حتى مؤيدوها، لماذا تمت: هل هي وديعة مالية؟ توسعة كامب ديفيد؟ ممر إسرائيل إلى الحضن العربي؟ أو هي شيء آخر يتعلق باستمرار السلطة تحت قبضة المجموعة المنتصرة.

هي صفقة قيد الأسرار.

ـ 2 ـ

لكنها ليست «أسرارا» بالمعنى القديم.

ولا هي «أمن قومي» كما عرفته الدولة تحت عقل الجنرالات منذ أكثر من 64 سنة.

ولا بما يخص «الدولة» في مصر، موديل جمهوريات التحرر من الاستعمار في العالم العربي، والذي ظل يواجه موديل «إمارات وممالك الثروة» التي يديرها وكلاء «إمبريالية» دولية تقودها أميركا…

إنها «أسرار» تحالف بين بقايا «الدولة» في كل من «الجمهوريات» و «الممالك» التي تتصارع على أرض خراب، لتقيم مدافنها الأنيقة بينما تتصور أنها تؤسس إمبراطورياتها العظمى.

وهذا ما يدفع الصراع إلى «الشخصنة» التي ترتبط بالمنتصرين في معركة «إيقاف التغيير»، وتجميد الدول عند حدود غرائز متوحشة في السلطة ترتبط بأحلام وخرافات وشهوة في الحكم بلا أفكار ولا مشاريع ولا خطط سوى استمرار المنتصر على «التغيير».

قوى التغيير هشة، لا يمكنها مواجهة جبروت (المال والسلاح والحشود المدجنة) التي تملكها القوى المضادة، لكنها بهشاشتها تظل «عاملاً محفزاً» لعملية اخرى تدفع فيها القوى المنتصرة «ثمن» انتصارها، وتوهمها أنها مثل الأقدار لا سبيل إلى الوقوف في مواجهتها.

إرادة السلطة في مصر تخيلت أنها «ستحسم»، معركة «الأرض» بتصدر السيسي لها، وتعطيل كل أدوار مؤسسات الدولة في توقيع اتفاقية، يمنع الدستور الإقدام عليها باعتبارها تخليا عن «السيادة على أرض».

القضية اختصرت في الرئيس وإرادته ومصير مكانه في قصر الرئاسة، وهذا ما ظهر في قسوة الأجهزة الأمنية والقضائية في مواجهة التظاهرات والمعترضين على ما سمي شعبيا «عملية البيع»، ثم في اللامبالاة التي واجهت بها الحكومة مسار الدعوى القضائية إلى أن قررت محكمة القضاء الإداري إيقاف الاتفاقية.

ومع انتقال القضية إلى مستوى جديد بالطعن الذي تقدمت به الحكومة ووزارة الدفاع والبرلمان على قرار المحكمة، اشتعل الصراع دفاعا عن «إرادة» الرئيس مستخدما طريقة «اللعب المكشوف» الذي وصل إلى حدود إعادة توصيف علاقة مصر بالجزيرتين على أنها «احتلال عسكري».

ورغم أن «الوجود العسكري» ليس الشكل الوحيد للسيادة على الأرض، إلا أن الدفاع عن «الاتفاقية/الصفقة» لا يهتم إلا بخلق رواية خيالية تبرر «إرادة الرئيس» وتضعه في صورة «من اكتشف الحق وأعاده إلى أصحابه…».

لكن هل تحل هذه الحلول الدرامية قضايا كانت توضع من وجهة نظر الدولة الوطنية تحت بند حساس إسمه «الأمن القومي».

ـ 3 ـ

عادت التظاهرات إلى «التحرير» بسبب قضية «أمن قومي» أخرى.

طلاب الثانوية العامة هتفوا أمس: «الحرية… الحرية»… و«احنا موش عبيد…» في استدعاء لمزاج يناير 2011 لمواجهة أزمة تسريب الامتحانات، واضطرار وزارة التعليم إلى قرار إعادتها.

«الثانوية العامة» هي قضية أمن قومي: أكثر من مليون طالب يحلمون بالمرور من نفق ضيق إلى الدراسة في الجامعة. هم مع عائلاتهم جمهور سياسي كبير تداعبه الأنظمة السياسية، كل بطريقته. رغم أن «الثانوية العامة» لم تعد الطريق الوحيد للجامعة مع ظهور أنظمة تعليم موازية وجامعات خاصة لا تحتاج إلى مكاتب تنسيق ومجموعٍ بقدر ما يحتاج بعضها إلى أموال. المال أصبح مهمًّا، سواءٌ لشراء شهادة جامعية، أو لاقتناص فرصة تعليم محترمة. والجامعة لم تعد السلّم الطبيعي للصعود الاجتماعي كما كانت في زمن عبد الناصر.

لكن «الثانوية» لا تزال مركز الاهتمام للجمهور الكبير، لأنها ترتبط مباشرة بسياسة الدولة في التعليم والعمل. وهي سياسة تنتظرها شرائح قليلة من الطبقة الوسطى لا تزال مرتبطة عضوياً بالدولة وملاعبها في التعليم باعتباره حائط الأمان المضمون في فرصة بالجامعة (بعيداً عن مصاريف تتراوح بين 5 آلاف و20 ألف دولار سنوياً في الجامعات الخاصة أو الأجنبية).

ومثل كل الأنظمة القديمة، فقدت «الثانويّة» مكانتها المركزية، لكنها بالنسبة إلى الحكومة، أداة للسيطرة أو لضمان ولاء جيوش الموظفين والطلاب في الجامعات. نظام مبارك تعامل مع الثانوية العامة على أنها من الأعباء الموروثة، لكنها أمن قومي لا يمس.

لكن «الدولة» عجزت عن مواجهة «الغش الجماعي» الذي يتنامى منذ سنين إلى أن وصل إلى إعلان الامتحان على شبكة الإنترنت في مواقع تحمل أسماء ساخرة… «شاومينج».

الدولة فشلت في مواجهة «شاومينج» وإخوته، بعد أن واجهت في ستينيات القرن الماضي، عملية من الجواسيس وصلوا إلى سرّ أسرار الدولة «امتحان الثانوية العامة»، وقرروا إذاعته على الهواء مباشرة. أرادت إسرائيل أن تقول لجمال عبد الناصر إنها تخترق أدق أجهزته، فقررت الحكومة إعادة الامتحان.

أما هذه الأيام فالأعداء يتحركون من الداخل والتسريب من النظام نفسه… والدولة تأكل نفسها.