IMLebanon

الدولة المتردِّدة

إنها دوامة التردُّد، التي غرقت فيها الدولة منذ زمن غير بعيد، حيث تركت ملفات حسّاسة غير منتهية وجراحا أمنية مفتوحة، فالتهبت وألهبت المناطق المحيطة بها.

فبدءاً من مخيم نهر البارد الذي انتهى بنصر كبير للجيش اللبناني، إلا أن الحسم الأمني لم يرافقه حسم قضائي ليبتّ بمصير الإرهابيين الذين بقوا خلف قضبان السجون اللبنانية أعواماً طويلة، يعيثون فساداً داخلها ويشكّلون مصدر شغب خارجها، من قبل المحتجّين عن غياب المحاكمات الضرورية والمشروعة لمنْ هم في قبضة العدالة.. يحصلون على التعاطف من قِبَل الحركات المتشددة ويتحوّلون من ملفات منتهية إلى حالات قابلة للحياة!. وقد يعزو البعض التردُّد في هذا الملف إلى غياب الغطاء السياسي عن هذه المحاكمات، فتعود الطبقة السياسية إلى الواجهة لتتحمّل تبعات كيدياتها وتعطيلها التي توشك أن تودي بالبلاد إلى التهلكة، وكأن المطلوب هو إبقاء هذا الجرح نازفاً حتى يتحرّك كلما دعت الحاجة.

وانسحب هذا النمط من المعالجة على سائر القضايا، فبات القضاء مقتصراً على الخدمات السياسية، تقوم المحاكمات وتصدر الأحكام خدمة لهذا الزعيم أو ذاك أو بغطاء هذا الفريق أو ذاك، وفي ما عدا ذلك مراوحة وتردُّد وغياب للحسم والقرار الجريء.

أمّا ملف العسكريين المخطوفين، فلم يكن أفضل حظاً على الرغم من الإجماع الوطني غير المسبوق على ضرورة إنهائه بأسرع وقت.. إلا أن الخلاف وقع على الأثمان.. فظهر إلى العلن وأعاد الضوء على تردُّد الدولة في ظل الإنقسام العلني حول السبيل لمقاربة هذا الملف! فبات التردُّد واقعاً بين المفاوضة المباشرة أو غير المباشرة، والمقايضة أو عدم الرضوخ لابتزاز الجماعات الإرهابية، إلى ما هنالك من قرارات، كلما كان التوجّه في خطوة نحو الأمام قابلها خطوات نحو الخلف، مما فتح الباب عريضاً أمام الخاطفين للتلاعب بمشاعر أهالي المخطوفين وتحويلهم إلى أداة ضغط في الشارع اللبناني.

لا يمكن أن يُنكر أحد على الدولة حقها باتخاذ القرار المناسب حفاظاً على أمن الوطن، ولا يرضى أحد بالرضوخ لابتزاز جماعات متطرّفة تحاول إلغاء إنجازات الأجهزة الأمنية على مدى أعوام عبر إطلاق سراح أخطر المجرمين والإرهابيين، ولكن من واجب الدولة أن تحدّد خارطة الطريق بشكل واضح وتنفّذها بحسم ودقة دون تردُّد أو ترك مجال لإضعافها أو تعطيلها، ولن يكون هذا ممكناً إلا في حال توفّر الإجماع السياسي في حكومة تفرّقها أهواء وزرائها وانتماءاتهم وولاءاتهم ولكن تجمعها المسؤولية الهائلة الملقاة على عاتقها خاصة في ظل غياب رئيس الجمهورية وانتشار الإرهاب في المنطقة بشكل غير مسبوق.

والإجماع نفسه مطلوب في ملف الأمن الغذائي والفساد المستشري في سائر الوزارات، حيث لن يكون ممكناً إتخاذ خطوات جدّية في هذا الملف إذا أصرّ كل فريق على التشكيك بالآخر، متلهياً بالقشور تاركاً المرتكبين يعيثون بالأرض فساداً. ولا يقلّ دور القضاء أهمية حيث لا بد من الضرب بيد من حديد كل من تسوّل له نفسه التلاعب بصحة الناس ولقمة عيشهم حتى لا تكون هذه الحملة زوبعة في فنجان سرعان ما تختفي ويعود الإنفلات في ظل غياب الرقابة الجدّية والحاسمة.

على أمل أن ينتهي ملف العسكريين بخواتيمه السعيدة ويُكمل القضاء ما بدأته الجهات الرقابية في الوزارات التي أعلنت الحرب على الفساد والمفسدين، ليستعيد اللبناني بعضاً من ثقته بوطنه ولتخلع الدولة عباءة التردُّد وتستعيد سيف المبادرة والحسم.. حتى لا يبقى شعار «الأمر لك» حبراً على ورق!