Site icon IMLebanon

الدولة في لبنان بين العصبيات القاتلة والحامية

قد تكون الدولة في لبنان حالة وحيدة في عالم الدول المعاصرة. فلا هي دولة قوية ولا “دولة فاشلة”، ولا هي ديمقراطية بالكامل ولا جمهورية بالكامل، وهي طبعا ليست ملكية او سلطوية. كما انها ليست دولة مدنية ولا هي دينية او علمانية.

هذه الدولة بوضعها الاستثنائي لا تزال على فرادتها منذ نحو قرن ولم يتشبّه بها احد لانها على الارجح لا تصلح سوى للحالة اللبنانية: دولة صنعت في لبنان وللبنان.

نشأت الدولة في لبنان في ظروف مشابهة لنشوء معظم دول المنطقة في عشرينات القرن الماضي. بل ان نسبة “المصطنع” في تكوينها اقل من سواها لأنها قامت على اساس كيان سياسي وقانوني وجغرافي (متصرفية جبل لبنان) معترف به من السلطنة العثمانية والدول الاوروبية الكبرى قبل نحو ستين عاما من دولة لبنان الكبير. ولاحقا، جاء مسار الدولة في لبنان في مرحلة الانتداب حتى الاستقلال مشابها لمسار دول الجوار العربي. الا ان الهوة بين لبنان وجيرانه، لاسيما سوريا، اتّسعت بعد الاستقلال، وتحديدا بعد حرب 1948 التي نتج عنها انشاء دولة اسرائيل.

دخلت سوريا حقبة الانقلابات العسكرية في 1949، وكان سبقها العراق، بينما لم يستطع رئيس جمهورية الاستقلال في لبنان، الشيخ بشاره الخوري، ان يكمل ولايته الرئاسية الثانية بعد التمديد المخالف للدستور. ومع المدّ الناصري في الخمسينات انقسم اللبنانيون، دولة ومجتمعا، حول الخيارات السياسية في زمن احتدام الحرب الباردة في المنطقة وانقسام الانظمة العربية بين مؤيد ومعارض لعبد الناصر.

عهد الرئيس فؤاد شهاب بعد ازمة 1958 اعطى الدولة شرعية وحضوراً وذلك عبر انشاء مؤسسات حكم تميزت بالاحتراف والنزاهة وارساء قواعد لانماء متوازن بين المناطق والطوائف. وجاء التحالف المضمَر بين شهاب وعبد الناصر ليحمي الدولة من ارتدادات الحرب الباردة بين انظمة الحكم العربية والحرب الساخنة في اليمن بين مصر والسعودية.

حرب 1967 وضعت لبنان في قلب العاصفة بعد هزيمة مدوية للقادة العرب الذين اسقطوا “جيل الهزيمة” بعد نكبة 1948. وسرعان ما تحول لبنان ساحة لحروب متعددة الوجه والغاية: الحرب بين العرب واسرائيل التي احتلت كامل فلسطين، وبين الانظمة العربية، وبين الاخيرة والمنظمات الفلسطينية، اضافة الى الانقسامات اللبنانية حول الموقف من هذه المسائل وغيرها. والمفارقة في تلك المرحلة الصاخبة ان الانظمة العربية الاكثر راديكالية في الستينات سلكت طريق البراغماتية بعد 1967، بينما لبنان، المجتمع لا الدولة، استعاد الحالة الراديكالية العربية التي سادت في مرحلة الستينات وما قبلها.

دخل لبنان أتون حرب مدمرة طوال خمسة عشر عاما ولم يكن للدولة دور، لا في تأجيجها ولا في احتوائها او انهائها. دولة الرمق الاخير في سنوات الحرب استمرت لأن لا بديل ممكن عنها. انتهت الحرب بحسم عسكري وليس بمصالحة وطنية. وجاء اتفاق الطائف دستورا متقدما في بعض جوانبه، الا ان تنفيذه كان معطلا بالولادة في ظل هيمنة سورية كاملة على مفاصل السلطة والقرار. في تلك المرحلة اصبحت الدولة في لبنان اقرب الى الممارسة السلطوية بالوكالة عن غيرها.

لكن، على رغم هشاشتها، استقطبت الدولة اصحاب الطموحات الكبرى. فمن بيروت انطلق مشروع الرئيس رفيق الحريري في اعادة الاعمار وسجّل الدين العام مستويات لا يتحملها الاقتصاد الوطني في اكثر الدول ثراء واستقرارا. ومن الجنوب تعززت المواجهات العسكرية مع اسرائيل تحت راية “حزب الله”، وعلى امتداد البلاد تناتش سياسي بعد ان بات الطامحون رهينة واضعي قانون الانتخاب بين بيروت وعنجر ودمشق، المفصّل على قياس بعض النافذين لخوض انتخابات محسومة النتائج ولا رابط لها بالسلطة التنفيذية. انها دولة منزوعة السيادة والقرار في الشأن الداخلي يتناطح اركانها على الوجاهة والثروة ومتقدمة على غيرها في انهاء الاحتلال الاسرائيلي بوسيلة المقاومة العسكرية في زمن المفاوضات العربية- الاسرائيلية. دولة التناقضات هذه، انتهت وظائفها في 2005.

الحدث المفصلي تمثل بالانتفاضة الشعبية غير المسبوقة في 2005، فاستعاد لبنان مقومات السياسة الداخلية والحد الادنى من القرار السيادي. تغير المشهد الداخلي لجانب اخلاء سوريا الساحة للقوى السياسية النافذة، فشكلوا تحالفا ضم قوى 8 و14 آذار غايته ابعاد الزعيم المسيحي الاقوى عن الساحة السياسية، العماد ميشال عون، المتخاصم آنذاك مع “حزب الله”. وبعد التغييب القسري للدور المسيحي بوسائل الترغيب والترهيب منذ مطلع التسعينات، بدأت مرحلة جديدة فرضتها تحولات 2005، لا تشبه اياً من المراحل المفصلية منذ نشوء الدولة.

بعد الاستقلال الاول في 1943 كانت الدولة في مرحلة التكوين والحفاظ على الكيان المستقل. اما بعد الاستقلال الثاني في 2005، فكان لبنان، على رغم وهنه وهشاشة نظامه، بيئة ملائمة لمصالح سياسية واقتصادية كبرى. لم تتبدل المعادلة الداخلية سوى لجهة الانسحاب السوري، وبقي كارتيل القوى السياسية المؤثرة على حاله ولم يعكّر صفوه سوى “التسونامي” العوني الذي فاجأ الجميع: في انتخابات 2005 وفي التحالف مع “حزب الله” في 2006.

اما الدولة الخارجة عن المألوف فقد استفاد منها الجميع: الموارنة في انشاء دولة لبنان الكبير في 1920 والشيعة في اعتراف الدولة بالمذهب الجعفري في 1926 ولاحقا مع اطلاق الامام الصدر حركة المحرومين من الدولة في اتجاه السلطة في الدولة وخارجها؛ والسنة في تحويل الوجه العربي للبنان الى عربي بالكامل، ومن ثم مشروع الرئيس رفيق الحريري الطموح الذي تجاوز الواقع اللبناني؛ والدروز في الحالة التي اوجدها كمال جنبلاط، على رأس اليسار اللبناني في قمة حضوره وتماسكه، والذي كان الزعيم الاكثر تأثيرا في السياسة اللبنانية في منتصف السبعينات. ففي اي بلد عربي او اسلامي آخر، لا يمكن ان يحقق اصحاب الطموحات الكبرى ما انجزوه في لبنان الدولة، مهما كان حالها.

صراعات عديدة ارتبطت بالدولة، بموقعها من القضايا العربية الكبرى وفي مقدمها النزاع مع اسرائيل والعلاقة مع دول الجوار العربي. حُسمت هذه المسائل نظريا في اتفاق الطائف والدستور المعدل الذي أكد ايضا على نهائية الوطن. وحُسمت عمليا في جنوب لبنان، حيث لاقت اسرائيل مقاومة لم تعهدها في حروبها على جبهات عربية بقيادة جيوش ودول. اما العروبة فتجاوزتها الاحداث وبات العالم العربي اليوم اسير عنف الحركات الجهادية المسلحة.

في ظل المشهد العربي المأزوم، تبقى الدولة في لبنان كيانا ثابتا على رغم المصاعب التي سوّرتها من الجهات كافة. وعلى رغم هشاشتها وضعفها، اثبتت انها الاكثر تجذرا لأن السلطة فيها لم تَختزل المجتمع ولأنها حاجة للجميع. العصبيات المجتمعية دمرت العراق وسوريا وليبيا، الا انها اعطت لبنان مناعة، فالجسم مريض من الاساس. العصبيات الطائفية، المتحولة الى المذهبية، كانت مصدر ضعف وقوة للدولة في لبنان. واذا كانت من الاسباب التي ادت الى اندلاع حرب 1975، الا انها تساهم اليوم، بشكل او بآخر، في حماية لبنان ودرء الفتنة عنه لصون مصالحها والبيئة الحاضنة لها، دولة ومجتمعا.

تبقى مسألة السلطة وتوزيعها داخل الدولة ومؤسساتها. وهي مسألة خلافية بمعزل عن ارتباط بعض مفاصلها بالخارج، ومهما حاول البعض تغليفها بالسياسات الدولية والاقليمية. وهذه بالذات حالة لبنانية خاصة من Megalomania السياسية.

الدولة، كيانا ومؤسسات وقوانين، حاجة للجميع، بعد ان خَبِر اللبنانيون شتى حالات غياب الدول او تغييبها في زمني الحرب والسلم. الا ان الخلاف قائم حول حدود سلطة الدولة في الداخل ومع الخارج. والتحدي يكمن في بناء دولة مستقرة، تُحترم فيها القوانين ويكون الشعب مصدر السلطة في نظام ديموقراطي يؤمن المحاسبة الفعلية استنادا الى نظام قيم يتوافق عليه اللبنانيون، جماعات وافرادا. وهذا ليس بالامر السهل، الا انه ممكن ولو بعد حين.