Site icon IMLebanon

“معركة تدميرية” للقضاء على ما تبقّى من مؤسسات!

 

 

يعترف بعض المنغمسين في الحرب الدائرة منذ خلو سدّة الرئاسة من شاغلها، انّ ما يجري يُعتبر مؤشراً إلى «معركة تدميرية» ستقضي على ما تبقّى من مؤسسات، بعدما خرج بعضها عن الخدمة. ومهما تعدّدت الشعارات المرفوعة، فإنّ اخطرها تلك التي تُخاض بحجة الدفاع عن صلاحيات الرئيس «الماروني الغائب»، في مواجهة سعي رئيس الحكومة «السنّي الطامح» ليكون «بديلاً من الغائب». وهو ما انعكس تجاوزاً لأولويات المرحلة وانقياداً الى المجهول. وعليه، ما هي المؤشرات الدالة؟

خلف كل الحراك الدائر على الساحة السياسية أكثر من سيناريو على قياس الأطراف المتنازعة على ما تبقّى من مظاهر الدولة ومؤسساتها. فالخطط التي وضعها المتنازعون متناقضة إلى درجة لا تتلاقى في مكان ما سوى على تدمير ما تبقّى من المؤسسات بعيداً من المخارج المقترحة داخلياً ومن المجتمع الدولي، من أجل وضع البلاد على سكة التعافي والإنقاذ وفق خريطة الطريق التي تعهّد بها المسؤولون اللبنانيون في أكثر من لقاء ومؤتمر خُصّص جانب منه للأزمة اللبنانية، وقد وضعت على الرف، في وقت تعززت المناكفات السياسية الحكومية الدستورية والمكائد المتبادلة.

 

ليس في ما سبق كلام من فراغ. فكل التطورات والمواقف المتبادلة توحي بذلك، فالهموم الرئيسية التي على أركان السلطة مواجهتها، كل من موقعه الدستوري والسلطوي، غائبة عن أولويات اهتمامات البعض المنخرطين في مواجهات مختلفة على اكثر من مستوى وصعيد، وقد جنّدوا لها كل القدرات السياسية والادارية، وباتت السلطات والمؤسسات مسرحاً لها إلى درجة تجاوزت كل مألوف، ما عزز المخاوف من أي خطط او قرارات تحيي دورها ومهماتها.

 

وانطلاقاً من هذه المعطيات السلبية، يتوقف المراقبون الحياديون امام مجموعة المواقف الزئبقية التي لجأ اليها البعض، وفجّرت مجموعة جديدة من الأزمات التي نمت وتنمو سريعا تحت سقف الشغور الرئاسي والانهيار المالي والنقدي الذي ظلّل مختلف القطاعات، بما فيها الحيوية التي تعني شؤون الناس اليومية الصحية والاجتماعية والتربوية والخدماتية على انواعها. ولذلك، بات البلد محكوماً من مجموعة مغمورة تتخذ من «الغرف السوداء» مقاراً لها، محصّنة بكل وسائل الحماية، وهو ما سمح لها بالتلاعب بالعملة الوطنية وكل أشكال الخدمات، بطريقة فصلت بين القطاعات وتحوّلت جزراً محكومة بأشباح منعت الاتهامات المتبادلة فوق السطوح وحالت دون تحديد المسؤوليات.

 

والأخطر، انّ هذا الواقع يقود تلقائياً إلى فقدان أي نوع من انواع المحاسبة، ولو المعنوية والاعلامية منها، ويمنع الوصول إلى مقاضاة المجرمين في ظل غياب السلطة القضائية التي شلّت نفسها قبل ان يتمكن احد من تعطيلها، فحقق الإضراب المفتوح للقضاة منذ أشهر عدة مخططات من سعى إلى تجميد التحقيقات الجارية في جريمة تفجير مرفأ بيروت من قِبل المحقق العدلي طارق البيطار، وكذلك منعت من اكتمال بعض الهيئات القضائية، ولا سيما منها تلك المعنية بالنظر في مسلسل الطعون وطلبات الردّ بحق بعض القضاة. عدا عمّا هو منتظر من أزمات قضائية ستظهر مؤشراتها قريباً عند وصول الوفود القضائية الأوروبية منتصف هذا الشهر تحت عنوان مواصلة التحقيقات الجارية مع حاكم مصرف لبنان ومعاونيه منذ عقدين ونصف من الزمن، ومع عدد من رؤساء مجالس إدارة بعض المصارف، ولم يُعرف بعد إن كان من بين المستهدفين مضمون لائحة بدأ الحديث يتسرّب منها وتضمّ قادة لبنانيين سياسيين وحزبيين متهمين بنقل أموال وسخة وتبييضها بطريقة غير شرعية وبوسائل محظورة دولياً وداخلياً، وقد تواطأ معهم كثر من اركان المنظومة المصرفية ومسؤولين بارزين.

 

لا تقف الامور عند هذه الملفات المالية والاقتصادية والمصرفية والقضائية، فثمة هناك ما يشبه «حرباً تدميرية» أخرى تُخاض على مسرح السلطة «التنفيذية» بعد تعطّل «الاجرائية» بخلو سدّة رئاسة الجمهورية من شاغلها تحت عنواني الحفاظ على صلاحيات الرئيس الماروني الغائب، وسعي رئيس الحكومة السنّي الموجود إلى تعزيز صلاحياته بما يتجاوز الأعراف والسوابق في ممارسة السلطة في غياب الرئيس، عبر آلية جديدة للتعاطي مع أعمال مجلس الوزراء الذي انتقلت إليه مجتمعاً صلاحيات الرئيس بالإنابة، وهو ما فتح الأفق على مجموعة أزمات حكومية ودستورية وقانونية لا يُعرف مداها بعد نتيجة التعاطي مع ما سُمّي أزمة مراسيم جلسة مجلس الوزراء الاخيرة التي عُقدت في ظروف ملتبسة وطريقة إصدارها وما رافق ذلك من تهم متبادلة وصلت إلى مرحلة الطعن بها بتهمة «قرصنة» صلاحيات الرئيس المفقود من جهة، والسعي إلى شل عمل الحكومة من جهة اخرى وتعطيل أعمالها.

 

وإن توقف المراقبون أمام هذه المواجهة حول العمل الحكومي في حكومة منتقصة الصلاحيات الدستورية قبل تولّي مهمتها الجديدة بحجة تصريف الاعمال، فإنّهم يرصدون ما تخفيه من عوامل يندى لها الجبين، ولم يتجرأ أحد على تناولها بعد. وهي في شكلها وتوقيتها والمضمون يمكن ان تفجّر البلد مجدداً، في وقت عجز فيه المجلس النيابي عن تقويم الوضع بانتخاب الرئيس العتيد، الذي يطوي انتخابه مثل هذه الأزمات، وخصوصاً لجهة تضارب الاجتهادات الدستورية والقانونية بطريقة لن تؤدي إلى أي حل لأي منها، هذا عدا عن تعطيل مساعي التوافق على رئيس جديد، بعدما تسببت مجموعة من الأزمات بين أبناء البيت الواحد بشل قراراتها المؤدية إلى تكوين الأكثرية النيابية المطلوبة التي يمكن أن تنجح في انتخاب أي مرشح للرئاسة وتضع البلاد أمام مجموعة من المآزق التي يصعب مقاربتها او إعادة ترميمها لاحقاً.

 

وما زاد في الطين بلّة، انّه وفي ظلّ صرف المليارات بمراسيم استثنائية حتى الآن، تحول بعض الخدمات الأساسية مادة سجال، ولا سيما منها أزمة الكهرباء التي تُستخدم اليوم مثلما استُخدمت الملفات الطبية لإمرار ملفات لا تنطبق عليها صفة العجلة والضرورة التي تسبب التمادي بتطورها بشل بقية القطاعات المرتبطة بكل الخدمات المعيشية، والتي تطاول قطاع المياه والخبز والدواء، وشل العمل الإداري نتيجة ارتفاع أسعار المحروقات عالمياً ومحلياً، في غياب أي اقتراح يمكن تطبيقه للتخفيف من آثار كل ذلك على اللبنانيين.

 

وأمام هذه الصورة البانورامية المعقّدة، ثمة من يعتقد انّ تطورها بالنحو المتوقع سيؤدي إلى مزيد من الكوارث التي تنمو على وقع التلاعب بحياة الناس ومورد رزقهم، بعد دولرة حياتهم في ظلّ فقدان الدولار، في وقت يبدو انّ هموم المسؤولين تتركّز على قضايا هامشية أخرى، هي من نتاج أزمة فقدان السلطات لمواصفاتها الدستورية الكاملة على قاعدة المثل القائل «مرتا مرتا تهتمين بإمور كثيرة والمطلوب واحد».