Site icon IMLebanon

دولة الرئيس والإنتخابات والخرزة الزرقاء

 

 *

بعد طول انتظار، تم اسدال الستار على الانتخابات النيابية، انتخابات يتوق اليها المواطن من اجل التغيير والاصلاح، وهما كلمتان ترفعان كشعار لهذا الحزب وذاك التيّار، بينما هما ارحب واوسع من كل برنامج سياسي او منهاج عقائدي، انهما يشملان كل مناحي الحياة، ويدخلان في كل ساحة وميدان.

انها الانتخابات التي ان اجريت وفقا للمعايير السويّة والقواعد العادلة، والاجراءات النزيهة، فانها تفضي الى الاصلاح والتغيير لانها تحمل في طيّاتها المؤهّلين الى الندوة النيابية، حيث التشريع والرقابة والمحاسبة، وكيف لا، والنخبة هي جذر الانتخابات، وتستمد منها خلاصتها ومعناها، وعندها وبلا جدال يفوز فيها الصفوة من الرجال،

فهل هذا ما حققته الانتخابات، وقد شابها ما شابها، وقد شابها الكثير مما رأيناه وسمعناه، وما قد يصدمنا عندما نطلع على الشذوذ والشواذ في الممارسات عبر الطعون المرفوعة الى المجلس الدستوري، وهل يصحّ ان نركن الى ما تناقله الاعلام عن فوز من هزم وهزيمة من فاز، اسئلة كثيرة لن يهدأ لطارحها بال، الا بعد اماطة اللئام عن الاحكام التي تفصل بين الحقائق والاوهام، والتي وحده المجلس الدستوري يملك صلاحية اصدارها ليعيد الى لبنان وجهه الحضاري الذي تلطّخ بمعرض ما جرى في هذه الانتخابات.

واذا قلبنا صفحة التعميم التي ومن دون استثناء تنافس فيها الجميع، وهي صفحة الاصلاح والتغيير، ناهيك عن عنوان الفساد الذي يتسع ويتعاظم، ولكن من دون ان نعثر على واحد وحيد من المفسدين، وحالنا في هذا كله من الاصلاح الى التغيير الى الفساد والمفسدين، كحال «اسمع جعجعة ولا ارى طحنا».

نعم، اذا قلبنا صفحة التعميم الى التخصيص، فاننا وان كنا ابعد ما نكون عن التمذهب والتطييف، فان لبنان بعد الطائف، الطائف الذي جمع اللبنانيين على قاعدة العيش الواحد والمشترك، وعلى قدم المساواة في الحقوق والواجبات، قد انقلبنا عليه، وبات المذهب والطائفة هما الاساس في الانتماء.

ولكي لا نختبئ والكل يجاهر، ولكي لا نتجنّب والكل وعلى رؤوس الاشهاد يتمذهب، ويفرغ ما تحمله عقيرته من الويل والثبور وعظائم الامور فنتساءل، ماذا عن اهل السنة والجماعة التي يحمل رايتها تيّار المستقبل، وما هو سبب هذا الانحدار الذي آلت اليه الامور بعد الانتخابات، وفيها ما فيها من تناقضات، فالتيار من جهة يحتفل بالانتصار، وفي نفس الوقت يعلن عن رزمة من الاعفاءات والاقالات ومعها الاستقالات، وكلاهما يحاكيان اللّبس والالتباس، ويترك علامات التعجب والاستفهام.

ترى اين الحقيقة، وهل يعود جوهر هذا الانحدار الى قلّة من المنظّرين المنتفعين من التيّار، او من المستشارين (الاخيار) وما اكثرهم، الذين همهم الوحيد ان يبقوا مستظلين بزعامة ابن الشهيد دولة الرئيس، ولم نسمع عن احد منهم انه قال كلمة لا او قال كلمة هذا خطأ او ضلال، فالمستشار مؤتمن، وامانته تقتضي ان لا يزين لزعيمه وقائده ورئيسه سوء عمله، {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا….} «الآية 8 من سورة فاطر».

الم يسمع هذا المستشار وذاك ماذا قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه لجماعته وقد همّوا بضرب احد العامة لانه قال لعمر «لا»: «دعوه، فليقلها، لا خير فيكم ان لم تقولوها ولا خير فينا ان لم نسمعها».

فأين زعماء اليوم من عمر، وأين المستشارين والمفكرين والمتخصصين والعلماء من العوام، ان الخطوة التي اقدم عليها الرئيس ومحورها الاقالات والاعفاءات هي من دون شك موقع تقدير واعتبار، شرط ان يتبعها الاستعانة بمن لديه الجرأة فيؤدي النصيحة بحقها وهذا ما تعلمناه من مدرسة النبوة، حيث قال المصطفى عليه الصلاة والسلام للصحابي ابي ذرّ الغفاري في اعقاب طلبه ان يوليه احد الامصار: «انك ضعيف، وانها لامانة وانها يوم القيامة خزي وندامة الا من ادّاها بحقها».

نعم كل الاعتبار والتقدير لما اقدم عليه دولة الرئيس، وهو بكل المقاييس مفيد، ولكنه ليس بيت القصيد الذي انحصرت قافيته ببعض رموز التنظيم والماكينة الانتخابية، ان بيت القصيد هو في الافتقار الى الرجل الرشيد في من هم اقرب المقرّبين او في الدائرة الضيقة التي (تنصح وتشير) وفي ظل انعدام الرشد، تخلو الساحة لحملة المباخر الذي لا يجرؤ احد منهم على قول الحق والدفع باتجاه التصويب، فيؤثرون الصمت والسكوت وهم يدرون ان الساكت عن الحق شيطان اخرس.

وهكذا اختصر منظّرو «المستقبل» تراثنا الوطني وثقافتنا العربية والاسلامية، وكل ما تحمله لغة الضاد من المعاني والمباني والعبارات المشرقة التي تجمع تحت لوائها شمل الناخبين وتلمّ شعثهم، وجنحوا عن كل هذا وطاش سهمهم ليستقرّ بهم المقام في مراتع الجاهلية التي يرفضها الاسلام والمسيحية، فابتدعوا للرئيس الحريري بدعة الخرزة الزرقاء كشعار للانتخابات، وهم بكل اريحية منهم تسقط القيم وثوابت الرسالات السماوية، اضافوا على هذا الشعار الجاهلي بأنها «تحمي لبنان ونحن الخرزة الزرقاء».

وفي ذلك ما فيه من اعتداء على الدين وتجاوز لفروض الاجلال لله تعالى التي رعته نص المادة /9/ من الدستور اللبناني، وهذا ما لم يدرك ابعاده الرئيس الحريري، فوقع في فخ المُحبين من حوله سواء كانوا يدرون تلك مصيبة، او كانوا لا يدرون والمصيبة اعظم.

وبرسم من نصح بهذا الشعار، ولكل الساكتين عنه والمروّجين له نقول: ان الخرزة الزرقاء هي احدى اخوات الآلهة في الجاهلية، سواع ويغوث ويعوق ونسرا، وهبل واللات والعزّى ومنات الثالثة الاخرى.

نعود ونكرر، التقدير والاعتبار على التصفية التي اقدم عليها دولة الرئيس في تيّار المستقبل، وهي تأتي من دون تردّد في سياق «ولكم في القصاص حياة يا اولي الالباب»، الا ان السبب الاكثر ايلاما وسبّب للتيار هذا الانحدار، هو هذا الشعار، شعار الخرزة الزرقاء.

ومع هذا كله، ومن مبانيه ومعانيه وبين سطوره، والذي كان من شأنه ان يجتاح جمهور المحبين للرئيس الحريري، فان من لديهم الحسّ الوطني والوعي السياسي، آثروا عدم الانجرار الى الفراغ، فرفضوا ان يحمّلوا رئيس التيار مسؤولية ووزر بدعة هذا الشعار، وسارعوا الى الانقاذ، انقاذ ما يمكن انقاذه تحت عنوان بانه ضرورة في هذه المرحلة، وان لا بديل له امام هذه الهجمة الظالمة التي تريد ان تعرّي مواقف تيّار المستقبل في حرصه على السيادة والوسطية، وتنسف معها كل التضحيات التي قدمها الرئيس الحريري ووالده شهيد الوطن، ولولا ذلك لوقعت الكارثة.

والمهم اخيرا ان نتخيّر، نتخيّر من هم اهل للمشورة والنصيحة، واصحاب العقول النيّرة من المخلصين ممن لا يتردّد في قول كلمة «لا»، لانهم يتمتّعون بصفة الرشاد ويسارعون الى تصحيح الخطأ وكشف الضلال.

ونختم بالقول، رُبّ ضارّة نافعة، فقد اسقطت الخرزة الزرقاء الاقنعة واطاحت بالرؤوس اليانعة، وفتحت الطريق واسعا لاعادة النظر بالتنظيم والهيكلية، وهي من اولويات المحاسبة.

 

*المدير العام للاوقاف الاسلامية سابقاً.