كسرت عودة الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد الرئيس رفيق الحريري، الجمود الذي سيطر على المشهد السياسي منذ ما يقارب العامين، فحركة الاتصالات واللقاءات التي أجراها، تحت عنوان واحد كبير وهو الانتخابات الرئاسية، فتحت أبواب التواصل، ولو بشكل جدليّ ليؤكد عمق الاختلاف بوجهات النظر بين الحلفاء والخصوم على حد سواء، مما خلق دينامية إيجابية ممكن أن تعيد الحرارة في الخطوط المقطوعة بين مختلف الأفرقاء فيما لو تواجدت النوايا الحقيقية لوضع حدّ للفراغ الرئاسي، إلا أن التعطيل لا يزال سيّد الموقف، ولقد كانت تصريحات «حزب الله» والتيار العوني واضحة بهذا الشأن، على ألا تفتح صناديق الاقتراع بوجود أكثر من مرشح، وبشكل محدد أكثر، لينافس العماد عون على كرسي بعبدا.
وبذلك، كانت الضربة القاضية على ما تبقى من مفاهيم ديمقراطية من جهة، وتمديد متعمّد للعجز العام من جهة أخرى، فشلت الطبقة السياسية، أو تمّ إفشالها، في إدارة الأزمة حتى وصل مجلس الوزراء، المؤسسة الوحيدة الفاعلة، إلى حالة شلل لم يبقه على قيد الحياة سوى غياب القرار الدولي بالإجهاز عليه. وتفاقمت الأزمات الاجتماعية والمعيشية، وعلى رأسها أزمة النفايات مع كل فضائح الفساد التي رافقتها وما تزال، لتضع علامة استفهام كبيرة حول آلية الخروج من دوّامة العجز والفساد الذي انقض على مختلف مرافق الدولة، وكانت جلسة الحوار، أمس الأول، أكبر دليل على إفراغ مضمونها وتحويله من أزمة الدولة إلى أزمة النفايات التي تحوّلت إلى إبريق الزيت القابل للاشتعال إثر التجاهل المتمادي للحراك المدني والأزمات المعيشية المتراكمة، والتي باتت تنذر بانعكاسات خطيرة على مالية الدولة وقدرتها على الحفاظ على ثبات النقد وقدرة الإنفاق تسهيلاً للمشاريع الحياتية الملحة.
لم يعد تعطيل الاستحقاق الرئاسي ينعكس على فريق دون غيره، أو يعني مرشحاً دون الآخر، لقد بات أزمة خانقة تلقي بثقلها على كاهل شعب بأسره، منهك أصلاً من غياب الدولة، عالق بين مطرقة المحاصصة وسندان المحسوبيات، إضافة إلى ضرب ما تبقى من فعالية الأداء الرسمي ضمن منحى تعطيلي انسحب على مختلف المؤسسات. ويشهد الأمن اليوم أسوأ درك وصل إليه منذ الحرب الأهلية، في ظل غياب المحاسبة وفقدان الثقة بالمؤسسات الأمنية والقضائية وجدية تعاملها مع المرتكبين، بعدما صار القتلة المعترفون والمجرمون الموصوفون خارج السجون، ومن لم تثبت عليهم التهم في زنزانات الانتظار الطويلة والمميتة! فباتت الجرائم ترتكب بوضح النهار، وفقد الإنسان قيمته بعدما فقد إيمانه بدولة المؤسسات. إن الإصرار على ربط مصير وطن، بمصلحة شخص إنما يدل على أن النفق المظلم لا يزال طويلاً ولا نوايا حقيقية لتغيير الواقع طالما أن فريقاً يستفيد من هذا الفراغ وهو قادر على فرض شروطه للخروج منه، ممسكاً بمفاصل الأمن والسياسة، محافظاً على أجنداته الدولية، البعيدة كل البعد عن المصلحة الوطنية العامة.
فأي وطن يُبنى بمنطق الغالب والأقوى، وأية مؤسسات قابلة للحياة، إذا لم تكن الأولويات واضحة وموحدة، وأي رئيس مفروض بالقوة سيكون قادراً على لمّ الشتات السياسي وفتح ورشة الإصلاح ومحاربة الفساد ضمن منظومة وطنية منسجمة وليس مجموعات متناحرة، مستعدة للتضحية بالوطن ومَن فيه خدمة لمصالحها الخاصة والآنية؟