IMLebanon

شروط استعادة الثقة والنهوض

 

إن المرحلة التي يعيشها اللبنانيون بعد الكارثة هي من أهم المراحل التاريخية في لبنان منذ إعلان دولة لبنان الكبير في أول أيلول 1920. إنها مرحلة واعدة قصوى وتفاؤلية في سبيل عودة اللبنانيين إلى لبنان وإقفال لبنان الساحة والساحات واستعادة الثقة عالمياً بلبنان.

 

 

تتطلب المرحلة ممارسة نقد ذاتي بالعمق بشأن ممارسات ماضية مناقضة للدولة والسيادة والاستقرار والمصلحة العامة. ينحو اللبنانيون غالباً إلى توجيه الاتهام، كل الاتهام ودائماً، إلى الغير والخارج وطبقة حاكمة. إنهم غالباً متواطئون ومساهمون، بدرجات متفاوتة وحسب مصالح مناقضة للدولة والسيادة، في الانهيار ولم يتعلموا من كل ما حصل ويتكرّر.

 

 

 

لا يمكن استمرار اللبنانيين في لبنان ساحة، ثم ساحات، منذ اتفاقية القاهرة سنة 1969 التي تم الغاؤها في المجلس النيابي في 21/5/1989، ثم اتفاقية قاهرة متجدّدة في 6/2/2006. أدى ذلك إلى الكوارث وإلى انعدام ثقة العالم وثقة اللبنانيين بمستقبل مستقر في لبنان. ما يظهر استمرارية بنيات ذهنية لبنانية لا تتعلم من التاريخ بل في التاريخ السعي لإرساء اتفاقية قاهرة متجددة، بعد كارثة 2024، انطلاقاً من شمالي الليطاني (نداء الوطن، 21/1/2025). تتضمن الرؤية المستقبلية ثلاثة عناصر:

 

 

 

1. دبلوماسياً: ممارسة الحياد في إطار جامعة الدول العربية، “مع التمسك”، كما جاء في وثيقة الوفاق الوطني-الطائف، بالشرعية الدولية في الوطن الصغير والدور الكبير، أياً كانت محدودية فعالية الشرعية الدولية في الواقع الحالي عالمياً، وذلك في إطار جامعة الدول العربية وانسجاماً مع مقدمة الدستور وهوية لبنان وانتمائه العربي والثوابت التاريخية بشأن سياسة لبنان الخارجية الرسمية منذ ميثاق 1943.

 

 

 

إن استعادة الثقة بالدبلوماسية اللبنانية الرسمية هي المدخل للدعم العالمي والعربي للبنان، ولتمويل النهوض، وتفعيل دور الانتشار اللبناني، وعودة اللبنانيين إلى لبنان. يعيش اللبناني حالة اغتراب عن لبنان. افتقر لبنان إلى الجديّة في العلاقات الخارجية. أورد أحد السفراء في لبنان قبل مغادرته لبنان في أواخر 2024: “إذا كنتم مستمرين في ألاعيبكم manigances فلا تعتمدوا على دبلوماسيتنا”! أبرز أولويات دبلوماسية لبنان العمل الجاد على تطبيق القرار 1701 مع نبذ أي نمطية ماضية في تكاذب وتموضع وسجالات وتأويلات.

 

 

2. دستورياً: كل تعدديّة هي صعبة الإدارة بطبيعتها، ولا نقول مستحيلة، حتى ضمن العائلة النووية المنسجمة. إن سجالات حول الميثاق والدستور وميثاق الطائف: ميثاقية، توافقية، ثلث، تعطيل، حصة، حجم، أحجام، صلاحيات… هي كلها ملوّثة. لا علاقة لها بأي نظرية دستورية عالمياً! الحاجة إلى استعادة البوصلة والمعاني استناداً إلى المنهجية العلمية الدستورية والثوابت اللبنانية.

 

 

مثقفون بدون خبرة، وأيديولوجيون بشأن العصرنة والبناء القومي، وكتّاب لم يطلعوا على دراسات عالمية مقارنة منذ سبعينات القرن الماضي حول الإدارة الديمقراطية للتعددية والمعايير الناظمة يجترّون مقولة: “الطائفية”

 

 

 

أو يرمون المسؤولية على ما ينعت “بالنظام”؟ يكتنف سجال حول “النظام” الغموض والمخادعة إذ يتضمن ثلاثة شؤون متمايزة: هل نعني “بالنظام” نص الدستور اللبناني؟ أم الممارسة؟ أم الخطاب في التعبئة السياسية؟ لا يستقيم أي نظام دستوري في العالم في واقع احتلال مباشر أو بالوكالة. يستقيم النظام الدستوري لبنانياً ضمن اثنين من الشروط المسبقات المنصوص عنها في الدستور بالذات:

 

 

رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة: يرد توصيف رئيس الجمهورية في التعديل الدستوري سنة 1990 بأنه “رئيس الدولة يسهر على احترام الدستور…” لهذا النص تاريخية في جذور وثيقة الوفاق الوطني – الطائف ومجمل الأعمال الإعدادية.

 

 

الحكومات الإجرائية: يرد في كل الفصل الرابع من الدستور توصيف السلطة التنفيذية بالسلطة “الإجرائية” exécutoire على نمط الدوائر الإجرائية في وزارة العدل، على عكس الممارسة في حكومات برلمانات مصغّرة حيث يتحوّل النظام البرلماني اللبناني إلى نظام مجلسي régime d’assemblée وبالتالي إلى دكتاتورية مقنّعة حيث يُخترق مبدأ الفصل بين السلطات وتنعدم المعارضة الفاعلة والرقابة البرلمانية والمحاسبة.

 

 

3. ثقافياً واجتماعياً: لا يقتصر النهوض في لبنان على بنيات فوقية دستورية وقانونية وإدارية، بل يتطلب برامج تطبيقية، ثقافية وتربوية، لمعالجة بنيات ذهنية قيميّة وسلوكية تعود جذورها إلى علم النفس السياسي التاريخي والعيادي اللبناني psychologie historique. بعض هذه البنيات هي مصدر إبداع، وبعضها في الحياة العامة مصدر حروب داخلية وبالوكالة، وخرق السيادة، وانعدام السياسات العامة، وانعدام الثقة مستقبلاً بمستقبل مستقر… لا تقتصر الثقافة على الفكر والفلسفة والفنون. تعني الثقافة أيضاً culture في علم الاجتماع:

 

 

الذهنيات والسلوكيات والقيم. في اللغة العربية: “ثقف”، “مثاقفة” تعني: تقويم الرمح، تقويم اعوجاج…!

 

 

 

(لسان العرب). يقول William B. Quandt الدبلوماسي والجامعي الأميركي: “لبنان معلم قاس harsh teacher. الذين يحاولون جهل واقعه المعقّد من المخططين الإسرائيليين الكبار أو المتفائلين المرضاء في واشنطن أو السياسيين اللبنانيين الطامحين يدفعون بالنهاية ثمناً باهظاً”. ويصف David Hale، سفير الولايات المتحدة الأميركية في لبنان سابقاً، استدراج اللبنانيين التدخل الخارجي في الاستقواء وفي نزاعات داخلية وبحثهم عن علاج خارجي:

 

 

David Hale, American Diplomacie toward Lebanon, I.B. Tauris, 2024.

 

 

التباين اليوم بين اللبنانيين ليس بين موارنة وسنة وموحدين… بل بين من تعلّم مما حصل ومن لم يتعلم! اللبناني لم يتعلم! هل يتعلم؟ في محاضرة في الندوة اللبنانية في 12/6/1950 بعنوان: “Le procès de l’intelligence “libanaise يقول جورج نقاش: “ما يحققه اللبناني على المستوى الفردي يحطّمه على مستوى الوطن”.