أذعنت وزارة المال للسياسات النقدية التي ينفّذها مصرف لبنان، ووافقت على رفع فائدة سندات الخزينة بمعدل ثلاث نقاط مئوية من أجل تغطية حاجات الخزينة، ما سيؤدي إلى رفع كلفة الدين العام تدريجاً. هذه الكلفة الإضافية ستصبّ ربحاً في جيوب المصارف
رضخت وزارة المال لمطلب مصرف لبنان والمصارف برفع فائدة سندات الخزينة بالليرة من 7.50% إلى 10.50% كشرط للمشاركة في الاكتتابات. يأتي هذا الأمر بعد أسابيع من امتناع مصرف لبنان عن المشاركة في شراء السندات الجديدة التي تصدرها وزارة المال وإبلاغها أن السياسات النقدية التي ينفّذها تحتّم عليه هذه الخطوة التي كان يقوم بها بدلاً من المصارف التي توقفت منذ فترة طويلة عن شراء السندات الجديدة بحجّة انخفاض أسعار فائدتها.
ففي السنوات الماضية عمدت المصارف إلى الامتناع عن المشاركة في شراء سندات الخزينة الجديدة التي تصدرها وزارة المال، وكان مصرف لبنان يشارك في هذه العملية بدلاً من المصارف ثم يصدر شهادات إيداع بفائدة أعلى تكتتب فيها المصارف. عملياً، كانت المصارف تقرض مصرف لبنان، ثم يستعمل مصرف لبنان هذه المبالغ لإقراض وزارة المال. وبهذه العملية كانت المصارف تحصل على أكثر من نقطتين مئويتين إضافيتين من مصرف لبنان عوضاً عن مطالبة وزارة المال بزيادة أسعار فائدة سندات الخزينة.
وعلى مدى السنوات الماضية ارتفعت حصّة مصرف لبنان من سندات الخزينة بالليرة إلى مستويات غير مسبوقة. قبل نحو سنتين، أي في أيلول 2016، كانت حصة «المركزي» تبلغ 44% من السندات، مقابل حصّة للمصارف تبلغ 40%، وحصّة للقطاع غير المالي تبلغ 16%، وكان الدين العام بالليرة يبلغ 68800 مليار ليرة. أما في أيلول 2018، وبحسب جمعية مصارف لبنان، فإن حصّة «المركزي» ارتفعت إلى 50.1% مقابل حصّة للمصارف تبلغ 35.1% وحصّة للقطاع غير المالي تبلغ 14.8%، فيما بات الدين العام بالليرة يبلغ 73000 مليار ليرة.
اليوم، وفي ظل الأوضاع المالية المتدهورة، لم يعد بإمكان مصرف لبنان تطبيق سياساته النقدية الرامية إلى امتصاص السيولة بالليرة للتخفيف من الطلب على الدولار ولكبح التضخّم الذي بلغ مستويات غير محبّذة وصلت إلى 6.3% في نهاية أيلول 2018 مقارنة مع نحو 4% في أيلول 2017، علماً أن هذا التضخّم يعزى بشكل كبير إلى عمليات طبع العملة بكميات كبيرة والتي قام بها مصرف لبنان خلال السنتين الماضيتين في سياق تنفيذ هندسات مالية تهدف إلى استقطاب الدولارات وتعزيز احتياطاته بالعملات الأجنبية للحفاظ على ثبات سعر صرف الليرة مقابل الدولار.
لذا، فإن مصرف لبنان، وفي إطار تطبيق سياسته النقدية، لم يعد قادراً على لعب الدور السابق كوسيط بين الوزارة وبين المصارف ودفع الفرق من ميزانيته. هذا الأمر لم يترك له أي خيار سوى دفع وزارة المال لرفع أسعار الفائدة من أجل تمكين المصارف من الاكتتاب بسندات الخزينة الجديدة وتجنيب مصرف لبنان أي تدخل في هذا المجال.
على أي حال، جاء الاتفاق بين وزارة المال ومصرف لبنان على رفع أسعار الفائدة بعد جولة من المفاوضات بين وزارة المال ومصرف لبنان. فقد عقد اجتماع عمل برئاسة رئيس الحكومة سعد الحريري وبحضور وزير المال علي حسن خليل، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة. يومها عرض سلامة الأوضاع النقدية والصعوبات التي تواجهه سواء لجهة عمليات امتصاص السيولة والطلب على الدولار والنزف الذي تتعرض له احتياطاته بالعملات الأجنبية جراء هذا الأمر. اتفق على متابعة الأمر والتوصّل إلى اتفاق.
في المقابل، لم تعد وزارة المال ترى بدّاً من ضرورة زيادة أسعار الفائدة والرضوخ لمطلب سلامة، لأن كل عملها الإنفاقي مرتبط بمدى قدرتها على استقطاب التمويل الذي تحصل عليه من سندات الخزينة بالليرة. وبما أن المبالغ الاحتياطية التي تملكها وزارة المال في حساباتها لدى مصرف لبنان تراجعت إلى نحو 3000 مليار ليرة فيما لديها حاجات مالية متواصلة قد تستنزف هذا الاحتياط خلال فترة قصيرة، تقلصت الخيارات أمامها إلى أمرين: الامتناع عن الإنفاق والتوقف عن دفع الرواتب والأجور وسواها من الإنفاق العام، أو رفع الفائدة على سندات الخزينة.
وفي المؤتمر الصحافي الذي عقد بعد اللقاء بين خليل وسلامة، تقصّد وزير المال الإشارة إلى أن الجلسة مخصصة لاستكمال «النقاش المفتوح مع المصرف المركزي حول الوضع المالي بشكل عام والاستقرار النقدي، وتحدثنا بشكل مباشر عن التحديات التي نواجهها والمرتبطة بتمويل الدولة واحتياجاتها». بالنسبة للوزارة المشكلة لا تتعلق بتمويل الخزينة، بل بالسياسات النقدية التي ينفذها مصرف لبنان والتي انعكست سلباً على تمويل الخزينة. فقد أشار خليل إلى أن «هناك وقائع خارجية على المستوى الدولي والمنطقة وهناك تحديات سياسية على مستوى الدولة عكست نفسها بطريقة مباشرة وغير مباشرة على الوقائع المالية وخلقت مجموعة من التحديات أمامنا، عرقلت خلال الأسابيع الماضية توافر التمويل المستدام لحاجات الدولة».
مصرف لبنان يرفض الاستمرار في الاكتتاب بسندات الخزينة بدلاً من المصارف
كذلك لفت خليل إلى دوافع الرضوخ لمطلب مصرف لبنان برفع أسعار الفائدة وشدّد على «تثبيت انتظام دفع كل الرواتب والأجور وملحقاتها والالتزام بتسديد المستحقات أو المترتبات على الدولة من سندات الديون الداخلية والخارجية حفاظاً على موقع وسمعة وتصنيف لبنان».
في المقابل، قال سلامة إن «البحث تطرق إلى آليات التمويل التي يحتاج إليها لبنان خلال عام 2019، واتفقنا على خطّة تستطيع (الوزارة) بموجبها أن تستقطب أموالاً إلى إصدارات الدولة، وتستعمل فوائد السوق ونحترم لعبة السوق كما أن التنظيم لتسديد الديون الخارجية والداخلية هو ضمن إمكاناتنا وضمن الإمكانات المتوافرة لدى القطاع المصرفي التي تحققت من خلال الهندسات المالية التي قمنا بها في السنوات الثلاث الماضية. لذا الوضع سيكون باستمرار مستقر سواء على صعيد صرف سعر الليرة أو على صعيد الائتمان في لبنان».
وحدّد سلامة مصدر التمويل من المبالغ التي تجمّعت لدى مصرف لبنان نتيجة العمليات المالية التي قام بها مع القطاع المصرفي «بموجبها هناك ودائع لهذا القطاع بالليرة اللبنانية مقابل ودائع حملها القطاع إلينا بالدولار. هذه الودائع هي بنفس الفوائد التي ندفعها وسنتفق مع المصارف لتحويلها إلى سندات خزينة بالليرة اللبنانية بفوائد السوق. مصرف لبنان يدفع 10.5% على عشر سنوات لا سندات قصيرة المدى بل على 10 أو 15 أو 20 سنة».
فوارق السلسلة: آلاف الموظفين الجدد
أبدى رئيس مجلس النواب نبيه بري ارتياحه إلى نتائج الاجتماع بين وزير المال علي حسن خليل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، قائلاً: «أطمئن إلى أن الوضع النقدي محمي ومستقر. مخاوفنا في الأسابيع المقبلة تجاوزناها. تم الاتفاق على المواضيع الاقتصادية ولا موجب لأي خوف. أما موضوع السلسلة فكل ما قيل حولها غير صحيح وهي ستستمر مطبقة كما أقرت، تبقى مشكلة التوظيفات الجديدة التي تتناول 2500 شخص صار إلى توظيفهم أخيراً فأنشأنا المشكلة». وفي هذا الإطار، قال خليل إن «تقديرات وزارة المال لكلفة سلسلة الرتب والرواتب أتت مطابقة بنسبة 100%. تقدير رواتب الملاك الإداري جاء مطابقاً بنسبة 99.99% بفارق 54 مليون ليرة لمصلحة الموازنة، ورواتب الأساتذة والمتعاقدين بالقطاع التربوي وفّرنا فيهم 70 مليار ليرة، أما الزيادة التي سجلت على السلسلة فهي الرواتب التي دفعت إلى العسكريين والأمنيين بسبب التوظيف الإضافي بأكثر من 2500 موظف جديد، فضلاً عن زيادة في تعويضات نهاية الخدمة». وأشار إلى أن «معدل المتقاعدين في السنوات السابقة كان يتراوح بين 3500 و3900 متقاعد بين 2012 و 2016. أما في عام 2018، ونتيجة بعض الحوافز وارتفاع المعاشات في السلسلة، تحفّز موظفون على تقديم استقالاتهم والحصول على تقاعدهم فتراكم على الوزارة نحو 220 مليار ليرة افتتحت اعتماداتها في الأسبوع الماضي. هذا هو الفرق في أرقام السلسلة». وفي جزء آخر من مؤتمره الصحافي، قال خليل إن مجموع الموظفين الجدد هذا العام وصل إلى نحو 5000 موظف.