كشفت الأحداث الجارية في العالم العربي منذ أربع سنوات أن حجم المشكلات في المجتمعات أكبر بكثير من أن تحلها ثورات سياسية أو انقلابات أو حروب، ولو أنها انتهت إلى الإقرار بتداول السلطة ومرجعية الانتخابات وتكريس بعض الحقوق الأساسية في الدساتير. إن الصدمة السلبية التي أتت بها المتغيرات لم تظهر فقط الإعاقة التي اتصفت بها «الدولة الوطنية» وإخضاعها إلى سلطات سياسية كانت عملياً فوق الدولة وقواعد الدولة، بل أظهرت العجز السياسي لدى «البديل» المفترض أو المتوقع أو الذي تصدّر عملية التغيير السياسي. وليس هذا العجز محصوراً في تيارات الإسلام السياسي المتعددة والمختلفة في التوجهات والأداء، بل كذلك وبشكل فاضح القوى السياسية المدنية ذات التوجه الديموقراطي.
ربما كان علينا أن ندرك ذلك من فشل التجربة اللبنانية قبل ربع قرن، حيث شهدنا انتكاسة خطيرة للثقافة السياسية جعلت الفجوة خطيرة بين الواقع الدستوري المقر والممارسة السياسية والقوى المحركة للعملية السياسية. فالحقوق التي جلبها الإصلاح الدستوري تحولت إلى حبر على ورق أمام القوى الفاعلة. لكن لبنان يظل أكثر رحمة من سواه بالإرث الليبرالي المتجذر في نمط حياة اللبنانيين والباعث الحقيقي لمناخ الحرية الذي يحجز نزعات الاستبداد المتنامية من نتائج الحرب الأهلية.
أبرزت حركة «داعش» أو هذه «القصوية الإسلامية» عن مفاهيم وقيم وثقافة واسعة الانتشار والتأثير معاكسة لما كان من قبل حال المصالحة أو المساكنة بينها وبين السلطات العامة المتصفة بحد من العلمنة السياسية، أو من الحياد المنظم والمقنن بين الدولة والمجتمع.
ولا نقصد هنا «العنف» وحده الذي كان سائداً في ممارسة السلطات القائمة لترهيب الناس، بل من خلال ما تظهّر من «وعي» لسلوك الإقصاء والإلغاء تجاه الآخر، كل آخر.
وما نسميه الآن «حركات تكفيرية» نعرف أنه حمل ثقيل من تاريخ المسلمين تضاف إليه منجزات الحداثة ومقدّراتها التكنولوجية المادية والمعنوية.
وهكذا التكفير يقوم أساساً على أرض الإسلام نفسه ويكاد ينحصر فيه ميدانياً وعملانياً في غياب فريق ثالث كان موجوداً في القرنين الماضيين، سواء أكان الخارج الغربي «الاستعماري أو الصليبي» أو كان التيار القومي شبه العلماني الذي فتح آفاقاً لمخارج مشتركة.
فما نحتاج لإصلاحه اليوم ليس النظام السياسي وحده بل كل الإرث الاجتماعي من أنظمة التربية والتعليم، إلى الاقتصاد والإعلام والأحزاب والإدارة والدين والنفوس والنصوص معاً. وهذه هي الثورة الحقيقية التي لم تطرق أبوابها الحركات السياسية الانقلابية القائمة اليوم.
فما معنى أن ننشئ نظاماً ديموقراطياً من حيث التعددية السياسية والمنافسة الحرة على السلطة بين أحزاب وجماعات تقسم المجتمع انقسامات عمودية على هويات فئوية متماسكة لا تستطيع التصرف إلا وفق مرجعية إيديولوجية واحدة ولا تملك مرونة سياسية للمساومة والتفاوض والتسوية؟
ماذا تنفع هذه الديموقراطية اللبنانية مع قوى قادرة على تعطيلها حتى بأولياتها التي هي صندوقة الاقتراع، أو بضوابطها كالمجلس الدستوري، أو بثقافتها خارج التحريض الطائفي وسطوته على الناخبين؟ وماذا تنفع الديموقراطية في العراق وسوريا واليمن وليبيا ومصر والبحرين وفلسطين وغيرها في مجتمعات الإثنيات والطوائف والعشائر التي صارت إحدى المحركات الأساسية للعمل السياسي؟
لم تنشأ خلال نصف قرن في العالم العربي حركات سياسية حاملة هذه الهموم والتحديات إلا بصفة شعارات عامة من غير برامج وآليات عمل. نابت عن الأحزاب مجموعات صغيرة وظيفتها تجزئة فكرة الثورة الشاملة وتفكيكها إلى عناوين فرعية. فكنَّا أمام نقيضين: أحزاب شمولية التفكير، عقائدية غالباً، تغتذي من ثقافة الإسلام السياسي التقليدية، ومجموعات ضغط صغيرة تتعاطى بتفرعات حقوق الإنسان. ولعل الظاهرة الأبرز هجرة المثقفين من الأحزاب السياسية والعزوف عن صفة «المثقف العضوي» وابتعاد الأحزاب عن صفة «المثقف الجماعي».
وها نحن اليوم بلا أدوات للتغيير المطلوب، ننظر إلى مجتمعات تتفتت لا تعرف كيف تؤسس للسيادة العليا أو الضمير الوطني أو المسلمات والمشتركات ولا حتى الفكرة الأخلاقية الجامعة. إننا نلوك شعارات هوائية لا تسمن ولا تغني من جوع.