كلام في السياسة
ثمة بلدة في وسط جبل لبنان يقطن فيها، وفق آخر إحصاء، نحو 26 ألف نسمة. ناخبوها على الورقة والقلم أكثر من ألف بقليل. يوم أحد انتخابات بلديتهم، انقسموا بشكل شبه متساو. بضع مئات من المقترعين في كل جانب. فجأة وصلت إلى البلدة ثلاثة باصات متوسطة الحجم تحمل مئة نسمة.
مئة رأس. مئة ناخب ومئة مقترع. صبّوا أصواتهم لصالح فريق، فاكتسح البلدية والبلدة وحسموا هوية رئيس دويلتها لعهد من ستة أعوام كاملة. قيل إن المئة مجنسون. قيل إنهم أصيلون لكن من سكان مناطق بعيدة. قيل إنهم «غرباء». قيل الكثير. لكن الأكيد أنهم تحكّموا بستة وعشرين ألف إنسان مقيم في البلدة، كانوا يوم الأحد متفرجين لا غير على تحديد ظروف حياتهم الجماعية في تفاصيلها، من دون أن يكون لهم أي رأي أو كلمة أو مشورة فيها.
ليس المعطى السابق تمريناً ذهنياً من نوع احتساب احتمالات الفوز في انتخابات أكثرية. ولا هو فرضية قانونية لإعادة نبش كارثة مرسوم تجنيس العام 1994. إنه مجرد واقعة دقيقة صحيحة، تضيء على معضلة أساسية عنوانها: ما معنى بلدية في لبنان؟
في التعريف اللغوي، لا يختلف اثنان على المعنى العربي للكلمة. البلدي هو المحلي، هو القريب منك حتى الشخصي والحميم. هو الملتصق التصاقاً بحياتك الطبيعية. مثل البيض والفروج والغنم وكل ما يحمل في ثقافتنا تلك الصفة، بلدي. وبالتالي، حتى لغوياً، لا يمكن لما هو «بلدي» أن يكون غريباً عنك. لا يمكن أن يكون من «بلد» آخر. ولا من «بلاد» أخرى. على طريقة تسمية مناطق الوطن الواحد ببلاد هذه الناحية أو تلك. في التسمية اللاتينية يصير المعنى اللغوي في أصله وجذره أكثر وضوحاً وتعبيراً. هي «الكومونة». لا بد أن أهل السنديانة الحمراء العائدين إلى انتخابات البلديات هذه الأيام، تطربهم تلك الكلمة، بما تحمل من تاريخ «كومونة باريس» وأيام الثورات… لكن المهم الثابت في تلك التسمية أن البلدية في التسمية اللاتينية، وبالتالي الفرنسية وغيرها من لغات الشعوب المتحضرة، تعني مفهومين اثنين: أولاً الجماعة، وثانياً ما هو مشترك بينها. أي أن هذا الإطار القانوني التنظيمي المسمى عندنا بلدية، هو أولاً وأخيراً تشكّل بشري لإدارة ما هو مشترك بين جماعة من الناس. والمشترك بين البشر هو مصالحهم. والمصالح في مفهوم الرقي البشري هو ما يوصل إلى الصالح العام والخير العام.
هذه معضلة واحدة من معضلات لا تحصى تظهرها الانتخابات البلدية كل مرة. لكنها تؤشر إلى عطب جوهري وبنيوي في قانون البلديات في لبنان كما في كل أنظمة عملها. ذلك أنها تطرح السؤال الأول والمبدئي: ماذا تفعل البلدية؟ إن لم يكن إدارة شؤون الناس. كل الناس. لا الناخبين، ولا طبعاً المقترعين منهم. معضلة تلقي الضوء على بنية الفساد العميق القائم في تركيبة البلديات في لبنان. وبالتالي على أسباب تخلّف تجمّعاتنا السكنية وتشكيلاتنا الحضرية. في مجتمعات تحترم الإنسان، كان الحل البسيط في أن يختار المقيم مكان تسجيله البلدي، وبالتالي مكان قيده واقتراعه البلديين. مسألة تبدو من المحرمات عندنا، لأسباب طائفية طبعاً. ولو أن بعضها مغطى بذرائع ميثاقية كما تسمى، أو حجج توازنية إنمائية. جوهر التحفظات والاعتراضات أن السماح باختيار مكان القيد الانتخابي البلدي، سيؤدي إلى انتقال الهويات الطائفية والمذهبية لعدد من البلديات من لون إلى لون آخر. سبب آخر أكثر حياء، هو الخوف من ازدياد ظاهرة النزوح من المناطق النائية ومفاقمة مأساة التمركز السكاني حول بيروت. مع ما قد يعنيه ذلك من تعميق الخلل التنموي بين المركز والأطراف. لكن في المقابل، أما من حلول ممكنة توائم بين المحذورين المتقابلين؟ أما من صيغ قانونية إدارية تسمح بمعالجة مساوئ كل من المفهومين المطروحين؟
لا يمكن لعلم القانون الإداري أن يعجز عن إيجاد حل كهذا. خصوصاً متى كانت معالجة كتلك ضرورة جوهرية للقضاء على دويلات الفساد المسماة بلديات في لبنان. كما لمكافحة موجة الإفساد الكارثية التي تنتهي إليها كل انتخابات بلدية. والأهم، لنقل بلديات المركز من شبه دويلات مكرسة لتركيبة مصالح خاصة أوليغارشية انتفاعية مافيوية، إلى هيئات محلية بلدية فعلاً، هدفها تنمية حياة السكان في أماكن سكنهم وتحسين ظروف عيشهم في مواقع حياتهم وإقامتهم.
في فلسفة اتفاق الطائف، قيل إن هذا الميثاق الوطني قام في شكل رئيسي على ثلاث تسويات جوهرية لثلاث إشكاليات كانت مطروحة خلال الحرب وحضرت على طاولة الحل قبل نحو ربع قرن: واحدة بين عروبة الدولة ونهائية الكيان. وثانية بين السيادة والمشاركة. وثالثة بين مركزية السلطة السياسية ولامركزية الإنماء المتوازن. بعد ثلاثة عقود من سوء تطبيق ذلك الميثاق أو لا تطبيقه أو حتى الانقلاب عليه، تكفّلت المآسي التي عاشها اللبنانيون بحل الإشكاليتين الأوليين من دون أي جميل لأهل الطائف. تبقى الإشكالية الثالثة عالقة ملحة وأولوية: كيف نحقق إنماء البلد، بدءاً من إصلاح ما يسمى بلدية؟