لم تستطع الموقّعات الفرنسيات على بيان الاعتراض على حملة «أنا أيضاً» (metoo#) المناهضة للتحرش الجنسي لفت الانتباه إلى الفارق الدقيق الذي أردن التركيز عليه وسقط موقفهن في خانة تبرير الاعتداء والجريمة، وفق ما يظهر من ردود الفعل الغاضبة من الشخصيات النسوية الفرنسية قبل غيرها.
البيان أراد تسليط الضوء على شيء آخر يتعلق بإفراط حملة «أنا أيضاً» في «الطهرانية»، وليس استدعاء التحرش بالنساء أو تحطيم جهود مكافحة الاغتصاب وإباحة النساء لرعونة غير محتملة من كل من هبّ ودبّ من الرجال، وفق ما اتهمت المنتقدات، كاتبات البيان والموقعات عليه.
الطهرانية، في زعمنا، هي الكلمة- المفتاح في البيان. ذلك أنها تعيد الحملة إلى سياقها الاجتماعي والتاريخي ليست كوقفة ضد استغلال الرجال لمواقعهم المهيمنة في الاقتصاد وأمكنة العمل وحتى في الحياة الفنية والثقافية فحسب، بل إلى الفارق الثقافي الآخذ في التضاؤل بين أوروبا القارية وبين الثقافة الإنكلو-ساكسونية، البريطانية والأميركية خصوصاً. لا يعني ذلك أن الأوروبيين يؤيدون الاعتداء على النساء أو التحرش بهنّ بل إن الفارق يكمن في مقاربة الظاهرة موضوع النقاش. وتبدي الموقّعات حساسية حيال أخذ الرجال جميعاً بجريرة المتحرشين، وهذا موقف يتماهى مع انتباه أوروبي- قاري حيال الفوارق الدقيقة بين الظواهر والحالات لا نجده قوياً في المواقف أو الآراء الإنكلوساكسونية.
وربما يكمن جذر حملة «أنا أيضاً» في مكان غير متوقع. يكمن في الانحياز البروتستانتي إلى الإرادة البشرية الحرة مقابل الخضوع الكاثوليكي التام لإرادة الخالق. كان هذا الانحياز من أسباب انشقاق البروتستانت عن روما وكنيستها وساهم في الحروب الدينية الدموية التي شهدتها القارة القديمة. الإرادة الحرة أسفرت عن مذهب يعطي الإنسان القدرة على التحكم في مصيره وخوض الصراعات الكبرى ضد قوى كبرى. هذه الفكرة حملها الطهرانيون البروتستانت معهم إلى العالم الجديد الذي شهد صعوداً في مركزية الإنسان وتحديه للطبيعة.
ثمة لائحة طويلة من الحملات الطهرانية الأميركية التي ميّزت تاريخ الولايات المتحدة في القرون الثلاثة الماضية، منها الحرب الأهلية التي اتخذ الجانبان فيها مسوغات دينية في شرح الصراع بين مؤيدي العبودية ودعاة تحرير العبيد. ثم جاء الفتح الكبير للغرب حيث اعتبرت الأراضي هناك بكراً لا أصحاب لها وقد منحها الله للمسيحيين الأميركيين. سمح هذا التبرير بإبادة السكان الأصليين من دون عقدة ذنب تذكر. بعد ذلك جاء حظر الكحول في عشرينات القرن الماضي الذي اتخذ شكل حرب صليبية على السكارى. بعد الحرب العالمية الثانية التي لم يتوان خلالها الأميركيون عن شيطنة الأقلية اليابانية في الولايات المتحدة، جاء دور الخطر الشيوعي فظهرت المكارثية كحرب على «مناهضي أميركا» الشيوعيين قبل أن يأتي رونالد ريغان بصيغته العالمية لدحر «إمبراطورية الشر» السوفياتية». بعد ذلك شنت أميركا حرباً طاحنة على المخدرات وعصاباتها. في التسعينات برز خطر الإسلام الجهادي في الأدبيات السياسية الأميركية فجاءت الحرب على الإرهاب التي قتلت من المدنيين أكثر بكثير مما فعلت بالإرهابيين. والآن تأتي الحملة على التحرش ضمن ذات السياق النظري، إذا جاز التعبير.
«أنا أيضاً» في ذاتها ضرورة للجم تغوّل الذكورية المستندة إلى اميتازات الموقع المالي والاجتماعي العالي الذي يستغله المتحرشون وأشهرهم المنتج الهوليوودي هارفي وينستين والممثل كيفن سبيسي وغيرهما. لكن المشكلة تبدأ مع تحول الحملة إلى حرب شاملة على كل أشكال التواصل بين الرجال والنساء على نحو يذكّر بالحملات السابقة التي انتهى أكثرها إلى نتائج معاكسة لأهدافها المعلنة. هنا يبدأ الجدل الأوروبي القاري- الإنكلوساكسوني حول حدود الإرادة الحرة للبشر. وهو ما رفعته الموقّعات على البيان الفرنسي من دون نجاح كبير.