IMLebanon

«بيان فيتنام»

 

جاء علي أكبر ولايتي مستشار «المرشد الإيراني» إلى بيروت وأعلن منها أن محور بلاده «انتصر» في سوريا وعموم ساحات القتال الولعان من اليمن إلى العراق.. ثم ذهب إلى دمشق وأعلن أن المعركة لتحرير إدلب (المشمولة باتفاقات المناطق الآمنة) ستنطلق «في غضون أيام». وقبله بقليل، كان رئيس سوريا السابق بشار الأسد يتابع وظيفته الوحيدة المتبقية له، أي إطلاق الكلام الكبير الدّال على النيّة بمتابعة الحرب «حتى القضاء على الإرهاب في كل سوريا».. ثم جاءت الفصيحة بثينة شعبان لتترجم ذلك القول على الطريقة الإيرانية، أي التأكيد على الزخف نحو إدلب والرقّة… إلخ.

أي أن الجماعة الإيرانية، أرادت في الأيام الماضية التأكيد على دوام موقفها بأنها غير معنية سوى بانتصار عسكري كاسح ماسح واضح ولمّاع، من دون أن تلحظ أمراً خطيراً وكبيراً وجليلاً مفاده أنها لم تستطع على مدى خمس سنوات الوصول إلى ذلك الهدف! وأنه لولا الروس ميدانياً لكانت اندحرت في قلب دمشق نفسها على ما أكد سيرغي لافروف وزير خارجية فلاديمير بوتين بعد انطلاق «عاصفة السوخوي» في أيلول من العام 2015.. وأن ذلك يعني تلقائياً وعملياً ومنطقياً، أن القرار «الأخير» صار في جيبة موسكو، وأنها هي، وليست إيران، مَن يُقرِّر مآلته الأخيرة!

وموسكو في هذا المقام معنية بمصالحها الاستراتيجية الكبرى في سوريا وليس بمصالح «المرشد» الإيراني. وحساباتها كما تبيّن بالملموس المحسوس، مطّاطة وليست مدكوكة في قوالب جامدة، مبدئية أو نظرية أو أيديولوجية. وأن هذه تمتد من تل أبيب إلى أنقرة وإلى سائر المعنيين الإقليميين بما يحصل في سوريا.. وصولاً إلى واشنطن نفسها وإلى بيتها الأبيض مع إدارة تنطلق في مواقفها من جذور مختلفة تماماً عن مواقف إدارة السيئ الذكر باراك أوباما، وتعتبر في الخطوط العريضة، أن إيران ليست جزءاً من الحرب على الإرهاب، بل مكوّن أساسي من صناعة ذلك الإرهاب. وأن سياسة ملاطفتها وتعويضها عن مشروع إنتاج القنبلة الإفنائية، هي سياسة قصيرة النظر وخطيرة وخاطئة، خصوصاً أن خلاصاتها الواضحة كانت تهديد الأمن والاستقرار والمصالح الأميركية في عموم المنطقة العربية والإسلامية، وليس العكس.. وخصوصاً أكثر، أن الأداء الأرنبي الذي اعتُمد حيالها كان أحد أبرز العوامل التي شجّعت كيم جونغ أون على التمادي في ألعابه الصاروخية والنووية! وإبداء كل ذلك الاستهزاء والاستهتار بالأميركيين وغيرهم أيّاً كانوا!

طنّش الإيرانيون طويلاً عن هوامش ارتباطات «حليفهم» الروسي في مقابل مركزية إنقاذ عاملهم في دمشق من السقوط الحتمي.. وكان الهمّ الأول والأساسي عندهم هو الوصول إلى نقطة الادّعاء الانتصاري (على السوريين والأكثرية العربية والإسلامية في المنطقة برمّتها!) حتى لو عنى ذلك غضّ النظر عن سوابق خطيرة من نوع التنسيق المفتوح بين الروس والإسرائيليين في شأن المعارك العسكرية والطلعات الجويّة! ثم الأخطر من ذلك، «تحمّل» (!!) غارات إسرائيلية طاولت قياديين وكوادر وعناصر من «حزب الله» ومنشآت وقوافل ومخازن عسكرية إيرانية وحزبية وبعضها فائق الحساسية، وبطريقة لم يسبق لها مثيل في كثافتها ودأبها.. وتحت عنوان عريض هو «اتفاق» موسكو وتل أبيب على «حق إسرائيل في محاربة الإرهاب»! و«الدفاع عن أمنها ومصالحها»، وترسيخ ذلك الاتفاق بكلام علني واضح من قِبَل بوتين نفسه وأمام «صديقه» بنيامين نتنياهو في أكثر من قمّة جمعت بينهما!

تلك السياسة النعامية، وصلت أو تكاد إلى خواتيمها.. والتخمين السابق عن اختلاف الأجندتين الروسية والإيرانية، انتهى لصالح يقين موثّق ومُعلن وواضح بدأ بعد سقوط شرق حلب بالإعلان عن المناطق الآمنة من دون أن يتضارب ذلك مع استمرار الحملة والحرب على الإرهاب «الداعشي» تحديداً.. بما كسر باكراً نظرية «الحسم العسكري» في «الحرب الأهلية» الذي تمنّاه الإيرانيون وتابعهم الأسد وحاولوا أكثر من مرّة مواصلة الدفع باتجاهه وإن بالتقسيط مثلما حصل ويحصل في الغوطة الشرقية الدمشقية! وفي الكلام عن «تحرير» إدلب والرقّة!

غير أن ذروة الافتراق الروسي – الإيراني جاءت في الأيام القليلة الماضية من فيتنام تحديداً ومن خلال البيان المشترك الصادر عن الرئيسين دونالد ترامب وبوتين، والذي هو حصيلة مشاورات ومفاوضات ونقاشات جرت بين الطرفين على مدى الشهور الماضية، بما أمكن أخيراً الإعلان عن خطوطه العريضة.. وأوّلها أن لا حل عسكرياً للأزمة السورية وإقرار إنشاء المنطقة الآمنة في الجنوب بما يلجم إيران وتوابعها ويُبعدها عن تخوم الجولان والحدود الأردنية.. ثم التأكيد على التمسّك بمسار جنيف والقرار 2254 الذي يُعتبر تلخيصاً لكل المقررات والتفاهمات السابقة القائلة في زبدتها، بالعودة إلى «الحكومة الانتقالية» وإجراء الانتخابات «بمشاركة كل السوريين في الداخل والشتات»… إلخ، بما يذكّر بالقول الأثير لوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون عن أن «حكم آل الأسد انتهى» لكن البحث جارٍ عن طريقة تنفيذ ذلك.. «بيان فيتنام» هذا يدلّ على أن الطرفين وجدا أخيراً تلك «الطريقة».

على أن الأخطر قبل الوصول إلى ذلك بالنسبة إلى إيران، هو اتفاق الدولتين على «أن تبقى سوريا دولة موحّدة ومن دون عناصر أجنبية على أرضها»!.. وبانتظار تبيان «معنى» ذلك عملياً، فإن «بيان فيتنام» قد يكون أسوأ ما أصاب إيران وعمّالها وادّعاءاتها «الانتصارية»، عدا عن أنه يؤشّر إلى مدى جدّية الإدارة الأميركية.. ويُعطي درساً في الواقعية السياسية لنظام يعشق الأوهام المُدمّرة!