بعد أن أطفأ الشغور الرئاسي شمعته الثانية، وبقي لبنان من دون رأس أو رئيس، حثّ مجلس الأمن الدولي في هذه المناسبة «القادة اللبنانيين على التصرّف بمسؤولية ومرونة لعقد جلسة نيابية عاجلة والشروع في انتخاب رئيس»، انطلاقاً من قلقه البالغ من هذا الفراغ الذي «أدّى الى الحدّ من عمل مجلس الوزراء وجعل مجلس النوّاب غير قادر على إصدار تشريعات حاسمة»، على ما جاء في البيان الصادر عنه. وأكّد «أنّ الشغور والشلل السياسي الناجم عنه يُضعفان من قدرة لبنان على مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية والانسانية المتنامية التي تواجه البلاد».
وتساءلت أوساط ديبلوماسية في هذا السياق إذا ما كان قلق الدول الأعضاء في مجلس الأمن كافياً لانتخاب رئيس الجمهورية في لبنان، وكذلك البيانات الصادرة عنه، أم أنّه على الدول المؤثّرة في هذا الانتخاب التحرّك بشكل جدّي وفعلي؟ ورأت أنّ فرنسا، على سبيل المثال، التي كانت تنوي إرسال وزير خارجيتها الجديد جان مارك إيرولت الى لبنان يوم الخميس الفائت، لتحريك الملف الرئاسي، وكلّ ما يتعلّق به من استحقاقات، عادت وأرجأت الزيارة الى 10 و11 تموز، بسبب عدم نضوج «الطبخة الرئاسية» دولياً، وفي انتظار تبلور الأمور في سوريا وسواها من دول المنطقة.
فمع بداية اندثار تنظيم «داعش» وتراجعه الى الصحراء، ومع إصرار الولايات المتحدة الأميركية وروسيا على استكمال المفاوضات السورية – السورية بهدف إنهاء الأزمة هناك ووقف إطلاق النار، وإعادة إعمار البلاد، فإنّ عدة أمور ستتغيّر في دول الجوار، على ما أوضحت الأوساط نفسها، وسيصبح في الإمكان المضي قُدماً نحو الهدوء المنشود والاستحقاقات المرتقبة.
ورغم إصرار المجتمع الدولي على انتخاب رئيس للبلاد، إلاّ أنّ عوائق عديدة لا تزال تحول دون ذلك في الوقت الراهن، على ما أضافت الاوساط، أهمّها أنّ المجلس النيابي الحالي الذي مدّد لنفسه مرتين، لا يُمكنه انتخاب رئيس لمدةّ ستّ سنوات، لأنّ الرئيس المنتخب قد تعتبره بعض الدول أو الجهات أنّه «غير شرعي او قانوني»، لفقدان شرعيته مع انتهاء ولايته الأصلية. أمّا استمرار عمل النوّاب واللجان، فيبقى أفضل من الشلل التام، أو الشغور الحاصل في قصر بعبدا، إلاّ أنّ ذلك لا يُعطي مجلس النوّاب الحالي صفة الشرعية المطلقة.
من هنا، ترى فرنسا، وتوافقها على ذلك الولايات المتحدة الأميركية المنهمكة حالياً في التحضير للانتخابات الرئاسية فيها في تشرين الثاني المقبل، أنّه من الأفضل انتخاب مجلس نيابي جديد يمثّل شرائح الشعب كافة، ثمّ يقوم هذا الأخير بانتخاب رئيسه المنتظر، الشرعي والقانوني والمناسب للمرحلة المقبلة الآتية على دول المنطقة، خصوصاً بعد وضع حدّ للأزمة السورية وتبيان نتائج المفاوضات.
أمّا إذا اتفق الجميع على أنّه بإمكان المجلس الحالي الانتخاب من دون «الطعن» بشرعية الرئيس الذي سينتخبه، فلا مانع لدى المجتمع الدولي من أن يقوم النوّاب بواجبهم الوطني والدستوري، لا سيما إذا لم يتفقوا على قانون جديد للانتخاب. وقد جدّد الأمين العام لمجلس الأمن بان كي مون في هذا الإطار الدعوة «لجميع الأقطاب السياسية اللبنانية للتصرّف بمسؤولية لانتخاب رئيس من دون أي تأخير وفقاً لدستور البلاد».
في الوقت نفسه، تعمل الدول الخارجية، ولا سيما الولايات المتحدة وفرنسا، على عقد مؤتمر دولي للسلام في منطقة الشرق الأوسط في 3 حزيران المقبل، من أجل تحريك المفاوضات الثنائية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والتمهيد لعقد مؤتمر موسّع أكثر في الخريف المقبل يضمّ الى جانب الدول العربية والغربية التي ستُشارك فيه، كلاً من الطرفين المعنيين بهدف إعادة الأمن والاستقرار والهدوء الى فلسطين والقطاع والأراضي المقدّسة. على أن تُواكب عملية السلام هذه، إعادة إعمار سوريا، كما عودة الطمأنينة الى لبنان وتمرير الاستحقاقات الدستورية في ظلّ مناخ هادىء لا تُعكّره المعارك أو المواجهات والحروب، ولا حتى تهديدات التنظيمات الإرهابية.
وبناء على ما تقدّم، فإنّ المجتمع الدولي يسعى الى ايجاد الحلول لدول منطقة الشرق الأوسط في سلّة واحدة، أو بالأحرى يعمل لأن تتزامن مع بعضها بعضاً ليتمكّن من دعم هذه الحلول والعمل على تنفيذها خلال وقت لا يتعدّى السنة. فالبيانات التي يُصدرها تُعبّر فعلاً عن هواجس الدول الأعضاء فيه، وهو ينتظر الفرص السانحة لتنفيذ كلّ ما تُقرّره. وفي رأي فرنسا أنّه كلّما طالت الأزمات القائمة حالياً في كلّ من سوريا ولبنان وفلسطين ودول الجوار، كلّما ازداد القلق، ولهذا فهي تقوم بجهود كثيفة من أجل إعادة السلام لدول المنطقة والتي تنعكس عليها سلاماً بشكل أو بآخر.
ففرنسا التي ضربها الإرهاب في عقر دارها مرتين، وبشكل عنيف وقاسٍ، على ما تؤكّد الأوساط نفسها، باتت اليوم أكثر من أي وقت مضى تشعر مع دول المنطقة، خصوصاً لبنان الذي عانى أيضاً من تداعيات الأزمة السورية عليه، من النزوح السوري الكثيف من جهة، ومن جهة ثانية من الإرهاب الذي ضرب الضاحية الجنوبية وسواها من المناطق اللبنانية مرّات عديدة. وتوصّلت الى قناعة بأنّه لا يُمكن القضاء على الإرهاب بالقوّة فقط، إنّما بالحلول السلمية والحوار بين المتصارعين على السلطة برعاية دولية، والتي تؤدّي في نهاية المطاف الى اضمحلال قوى الشرّ وسيطرة قوى الخير بدلاً منها.
كذلك فالرئيس الأميركي باراك أوباما الذي يُغادر البيت الأبيض بعد أشهر، دعا خلال زيارته التاريخية الى هيروشيما الى عالم خالٍ من السلاح النووي، الأمر الذي يؤكّد على أنّ الإنسان في كلّ أنحاء العالم هو الذي يقوم بتدمير نفسه من خلال اختراع واقتناء مثل هذا النوع من الأسلحة الذي يُدمّر البشرية بأكملها. ولهذا عليه اليوم، أينما وُجد في أي بقعة من العالم، التخلّي عن هذا السلاح الفتّاك، والإيمان بالسلام بدلاً من العنف والقتل.
ولعلّ التجارب السابقة للولايات المتحدة الأميركية مع إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما منذ 71 عاماً، ثمّ افتعالها الحروب في دول المنطقة لا سيما في العراق، هي التي جعلتها تعيد النظر في حساباتها ومواقفها وتتطلّع اليها من ناحية ما عانته وتعانيه من الحروب التي لم يوضع حدّ نهائي لها بعد. ولهذا فإنّ الإدارة الأميركية ستسعى، حتى مع انتخاب رئيس جديد للبلاد، الى إحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط الى جانب الدول الأخرى.
ويبدو أنّ دول العالم لم تتحرّك فعلياً لمواجهة الإرهاب تقول الاوساط، إلاّ بعد أن أصبح يُشكّل خطراً كبيراً عليها، ويطالها متى وحيثما يشاء، ولهذا تعمل على بدء «تنظيف» دول منطقة الشرق الأوسط منه، لكي لا يرتدّ عليها بكلّ شروره وقواه. علماً أنّ الضربات العسكرية الروسية، والفرنسية في وقت سابق، تمكّنت من تقزيم دور التنظيمات الإرهابية وفكفكة قواها وقدرتها على الاستمرار في أعمالها القتالية والتهديدية، الأمر الذي من شأنه أن يريح دول المنطقة، كما الدول الأوروبية كثيرا.