“دكاكين” ومروّجون إعلاميون VS خبراء ومختصّون
الانتخابات النيابية على الأبواب… إلا إذا. وها هو باب الترشيحات يقفل رسمياً على 1043 طلباً. قد تكون المرة الأولى التي تجرى فيها الانتخابات والحالة العامة للبلد بهذا القدر من السوء. لكن ما علينا. حديث الساعة هو اللوائح والنسب والحواصل والكسور. وهي ما تفتّق عنه قانون غريب عجيب قد يُسقط من نال آلاف الأصوات وقد يوصل من لم يحز سوى على بضع عشرات منها. الطامحون للوصول – أو العودة – إلى ساحة النجمة كثر. وشركات الإحصاء التي يملأ أصحابها وخبراؤها الشاشات وأثير الإذاعات كثيرة هي الأخرى.
تشهد “سوق” شركات الإحصاء في لبنان فوضى عارمة بحسب العديد من المختصّين. فوضى تسمح للكثيرين التشكيك بنتائج بعض الاستطلاعات والدراسات. التنافس بين العاملين في المجال شديد وقد يصل إلى حدّ تقاذف الاتهامات المتعلّقة بغياب الصدقية ونقص الشفافية. لكن وجود «دكاكين» هنا وهناك لا يحتّم التعميم. فالإحصاء هو علم بالمقام الأول مبني على أسس منهجية بحتة. كيف تقارب شركات الإحصاء الواقع الفوضوي لتبقى محط ثقة الداخل والخارج، وماذا يقول بعض أصحاب الاختصاص في موسم الانتخابات؟ إليكم التفاصيل.
منتحلو الصفة إلى ازدياد
نبدأ مع رئيس مؤسسة «Global Vision» للدراسات والأبحاث الاستراتيجية، الدكتور طانيوس شهوان، الذي اعتبر أن المقياس الأول في مجال الدراسات الإحصائية هو العلم: «يخضع استطلاع الرأي لقواعد علمية معروفة منها منهجيات واضحة تعود لعشرينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة وامتدّت في الثلاثينيات إلى أوروبا حتى وصلت إلى لبنان في التسعينيات». وهو مسار يُبنى على أسس علمية ترتكز على تقاطع مجموعة من العلوم، منها علم الإحصاء وعلم الاجتماع السياسي. المعيار الأول لتحديد صوابية استطلاع الرأي هو خضوعه لتلك المعايير واتّباع منهجيات واضحة تُحوّل الأرقام إلى مواد علمية مثبتة. فما سبب عدم اتّباع شركات كثيرة هذه المنهجية؟ يجيب شهوان أن «المشكلة الأكبر في لبنان تتمثّل بغياب الرقابة والمرجعية العلمية التي تحدّد صوابية العمل من جهة، وازدياد أعداد منتحلي الصفة الذين يتعاطون مع الموضوع بعيداً عن الأسس السليمة، من جهة أخرى، وذلك بهدف الترويج الإعلامي لأشخاص وفئات ومجموعات معيّنة».
عمل الشركة، التي تضم حالياً 25 موظفاً في حين استدعى الوضع الاقتصادي المتردّي إعادة النظر بأسعارها بما يحافظ على تغطية المصاريف، يتمحور حول مواضيع تهمّ الرأي العام – منها دراسات تُعدّ لصالح جهات خاصة لا تُنشر إجمالاً، ومنها ما هوعام (سياسة، اقتصاد، استهلاك…) وتُنشر غالباً. يقول شهوان: «لا نسمح لأنفسنا بنشر أي دراسة أتت بطلب مباشر من صاحبها، فالقرار بعرضها على الرأي العام من عدمه يعود له حصراً.
ماذا يخبرنا شهوان عن موسم الانتخابات؟ «يبدأ التحضير قبل عام تقريباً من الموعد، ويتزايد ضغط العمل بشكل تصاعدي كلما اقتربنا من الاستحقاق». ولتفادي إمكانية الحصول على نتائج مغلوطة، يكون سببها أحياناً عدم تعاطي العيّنة المستطلعة بشكل موضوعي وصريح مع الأسئلة المطروحة، يتم دوماً احتساب «هامش الخطأ» وهو ركن أساسي من أركان الدراسات الإحصائية. فالمنهجية العلمية تستدعي أخذ الإجابات المغلوطة بعين الاعتبار لتجنّب الوقوع في الخطأ. وعلى الرغم من أن النتائج تأتي تماشياً مع عوامل مضبوطة ومنهجيات واضحة، إلا أنها لا ترضي في معظم الأحيان تطلّعات المرشحين لتعارضها مع قناعاتهم بالقدرة على حصد أصوات أكثر. ويضيف: «يعترضون ويحتجون ويستاؤون غير مدركين أننا ننفّذ طلباتهم بشكل منهجي دون أن نكون مسؤولين بأي حال من الأحوال عن النتائج».
عن الاستحقاق الحالي، يشير شهوان إلى أن وتيرة العمل تضاعفت لكنه يلحظ فرقاً عن دورة العام 2018: «الحماس الانتخابي غائب لدى المواطن كما لدى المرشّحين… الظروف الاجتماعية غير مريحة والواقع الاقتصادي ضاغط لا بل خانق على نحو غير مسبوق». لذا يبقى السؤال المحيّر للجميع حول نسبة الإقبال في حال حصول الانتخابات في موعدها.
البعض يريد دراسات محدّدة النتائج…
ننتقل إلى الاختصاصي في الشأن الانتخابي، كمال فغالي، الذي يعمل على تجزيء الدراسات الإحصائية قبل الانتخابات إلى مراحل ثلاث. المرحلة الأولى ترتكز عادة على أهداف طالب الدراسة، إذ يقول: «ثمة من يريد جس نبض المزاج الشعبي، ومن يسعى لوضع معالم استراتيجيته من خلال استطلاع الرأي. كما أن هناك اهتماماً من قِبل البعض لتبيان مطالب الناس الحيوية والخروج بشعارات تحاكي تلك المطالب، أو حتى تحديد الدائرة الأكثر ملاءمة للترشح فيها». ثم تأتي المرحلة الثانية في إطار تأليف اللوائح، إذ ترتكز القوى السياسية على نتائج الاستطلاعات لاختيار المرشحين الأوفر حظوظاً وضمّهم إلى لوائحها. أما المرحلة الثالثة، فتلي مرحلة التأليف بحيث يكون الاتجاه نحو حصر وتقييم نقاط القوة والضعف للاستفادة من الأولى وتحسين الثانية.
عن الاستحقاق الحالي، يشير فغالي إلى أن الاستطلاعات الانتخابية بدأت فعلياً منذ آذار 2021 وتصاعدت وتيرتها بدءاً من حزيران الماضي لتبلغ أوجّها في تشرين. بالنسبة إلى العيّنات، يتمّ اختيارها كمزيج بين الكوتا والعشوائية: «يجري اختيار 2.5% من المقترعين السابقين في دائرة ما لاستطلاع آرائهم ليبدأ بعدها الاختيار العشوائي، حيث نطرق مثلاً باباً من كل خمسة أبواب، على اعتبار أن الباب يمكن أن يكون منزلاً أو مطعماً أو حتى متجراً». وهامش الخطأ في هذا السياق يُحدّد بناء على كمّ التناقض في الإجابات بين الاستمارات المختلفة.
نسأل عن كيفية اختيار مواضيع الدراسات وبيعها، فيجيب فغالي أن ذلك قد يحصل نزولاً عند طلب خاص يكون في معظم الأحيان غير علني، في حين أن دراسات أخرى تعالج مواضيع تتعلق بالرأي العام ويمكن أن يتمّ بيعها لاحقاً. وفي وقت أكّد على الالتزام المطلق بالمعايير العلمية والموضوعية والشفافية في العمل، ذكر خيارين لناحية تسديد أجور الدراسة: «على سبيل المثال، إما يكون الدفع مسبقاً – أي قبل حصول الانتخابات – أو مضاعفاً بعد صدور النتائج في حال توافقت نتائج الانتخابات مع أرقام الاستطلاع… لهذه الدرجة أثق بدقة عملي». الدراسات العامة بدورها يمكن أن تباع لأكثر من طرف حيث تُقسّم التكلفة في ما بينهم.
ظاهرة تسييس النتائج ليست بغريبة عنا. هنا لم ينفِ فغالي وجود جهات «بدّها دراسات على ذوقها» وأخرى «تريد تصوير نفسها على أنها الأقوى على الساحة». كما أن هناك فئة ثالثة «تسعى لاستغلال اسمي لتعلن فوزها». فإذا كان المرشح يريد الكذب على نفسه، لِمَ تكبّد مصاريف الدراسة أساساً مع علمه المسبق بحجمه الحقيقي؟ في هذا الإطار يقول فغالي: «من الصعب جداً أن أُنجز دراسة لا ترضي قناعاتي، فإن لم أقتنع بجهة ما، يتعذر عليّ التعاون معها». وماذا عن الفوضى الحاصلة في هذا المجال؟ هناك سببان رئيسيان برأيه: «الأول غياب القوانين التي تُلزم شركات الإحصاء الاشتراك مع منظمات دولية بهدف ضبط إيقاع عملها. والثاني وقاحة بعض الجهات السياسية التي سطت على مقدّرات الشعب تحت شعارات برّاقة ووعود كاذبة… فالكذب لا حدود له في لبنان».
فغالي، الذي يحصر عمله حالياً في الإطار الانتخابي ويتألف فريقه من حوالى 800 طالب وطالبة جامعيين، لفت إلى أن موسم الانتخابات يساهم في زيادة حجم العمل بنسبة 100%. ويختم كلامه معرباً عما لمسه من غياب الحماس المعهود لدى الناس مقارنة مع انتخابات العام 2018: «في حال توحّدت مجموعات التغيير، يمكن أن تفوز بنصف مقاعد المجلس النيابي، وإلا سنشهد نسبة اقتراع منخفضة جداً».
للاستطلاعات أثر على الرأي العام
نختم مع رئيس مجلس إدارة شركة «Statistics Lebanon»، السيد ربيع الهبر، الذي استهل حديثه مبدياً تأسفه على ما آل إليه واقع الدراسات الإحصائية في لبنان: «كل من يجنّد أربعة أو خمسة أشخاص يدّعي القدرة على القيام باستطلاعات رأي، في حين أن الاستطلاع يحتاج إلى عيّنات وخرائط وعمل ميداني منظّم». وهذا يفسّر بروز شركات ظرفية لا تلبث أن تغلق أبوابها بعد الانتخابات. لكن تفادياً لحالة «الهرج والمرج» هذه، يؤكد الهبر أيضاً على ضرورة أن تتدّخل بعض المنظمات الدولية للموافقة على المقترحات (Proposals) والتأكّد ما إذا كانت الشركة قادرة على تنفيذ الدراسات الإحصائية ضمن الأسس والمعايير الصحيحة، وأن يتم قبول دراساتها من قِبل إحدى المنظمات تلك.
المرشحون يلجأون إلى استطلاعات الرأي لتركيب اللوائح، أو تقدير نسب الربح والخسارة، أو حتى تحديد عدد الأصوات التي يجب شراؤها. من هنا، تُحضَّر الاستمارات بناء على موضوع الدراسة، مع ضرورة أن تخضع لبروتوكول معيّن لا يتيح متّسعاً للتلاعب به. بعدها تحدَّد العيّنة التي ستوزَّع عليها الاستمارات على قاعدة تَناسُب الاحتمالات مع حجم العيّنات (PPS: Probability Proportional to Size Sampling) والتي تعكس رأي المجموعة موضوع البحث كاملة (Population). ويشرح الهبر أن «القاعدة الأساس في عملنا هي اعتماد الطرق العلمية غير أن ذلك لا يمنع احتمال وجود نسبة معيّنة من الخطأ». كما يعتبر أن لجوء الكثير من المرشحين والأحزاب لطلب دراسات محدّدة النتائج سلفاً إنما يهدف إلى التأثير على الرأي العام، وهو تأثير من شأنه أن يطال الخاسر أكثر منه الرابح. «إذا تم التسويق لهزيمة شخص ما، فهو سيفقد بواقع الحال اهتمام الرأي العام به». كما أن هناك جهات سياسية تسعى لتسويق الربح لنفسها، والويل والثبور إذا أتت نتائج الاستطلاع بعكس ما تشتهي.
نسأل الهبر، الذي تضم شركته حوالى 150 موظفاً وتركّز بشكل أساسي على دراسات لمنظمات وجمعيات دولية كالبنك الدولي، ومنظمة العمل الدولية، واليونيسيف، عن الفرق بين الدورة الانتخابية الحالية والتي سبقتها، ويجيب: «شهد العام 2018 وفرة مال وهامشاً أوسع للتحرك حظي به المرشحون بعكس ما تشهده السنة الحالية من مصائب».
قد تختلف أرقام الاستطلاعات أو تتطابق وقد تتضارب التوقعات أو تتناغم. كذلك الحال بالنسبة لأهداف المرشحين ومراميهم. الغد لناظره قريب ليتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، لا بل لنكتشف بالدليل القاطع إذا ما كان التغيير في حقبة ما بعد 17 تشرين ممكناً. وفي جميع الأحوال، أخشى ما نخشاه أن «يتمخض الجبل فيَلِد فأراً».