IMLebanon

إِبقَ على الأَقدام  

 

«حمّام مقطوعة ميّتو»… هذا المثل أكثر ما ينطبق على حالنا في لبنان: الجميع يتحدّثون في وقت واحد. فوضى لا حدود لها. تشابك أقوال ونظريات. كلهم خبراء. في كل شيء خبراء. السياسي ينظر في الفن. «الفنّان» يتحدث في السياسة. الإقتصادي يبدي رأيه في الشعر. الشاعر ينصّب نفسه خبيراً في الدستور. الدستوري يجتهد في الطرب. المطرب يدلي بدلوه بين الدلاء في بئر الموازنة. المزارع يتكلم عن الطب (…).

 

واللافت أن هؤلاء وآخرين كثراً يتحدثون دفعة واحدة. والأكثر ظرافة في هذا الأمر أن الجميع يجدون لهم منابر في وسائط الإعلام كافة. من صفحات الصحف الى شاشات التلفزة، الى أثير الإذاعات، الى فضاء العالم الإفتراضي… وما أدراك ما هذا الفضاء الذي بزّ رواده «زملاءهم» رواد المركبات الفضائية في التحليق في هذا العالم اللامتناهي، والذي تنبت مواقعه عندنا (وعند سوانا) كالفطر.

والجميل جداً الألقاب التي تطلقها الوسائط الإعلامية تلك على هؤلاء الغارقين في فوضى الحمّام المقطوعة مياهه: فهذا خبير استراتيجي في العلوم العسكرية. وذاك خبير استراتيجي في العلوم المالية. وثالث خبير استراتيجي في الطيران الحربي. وسواهم خبير استراتيجي في علوم الذرة، وغيره خبير في القانون الدولي، واستراتيجي ايضاً.

والأكثر جمالاً انك إذا استمعت الى هذا وذاك وذلك تروح تبحث عبثاً عن معلومة ذات شأن، أو عن نظرية «تقف على رجليها» والواقع أنك امام «معلومات» هي في متناول الجميع، ليس فيها من جديد، ولا هي في الأساس على أي قدر من الأهمية.

والسؤال: الى متى تستمر هذه الفوضى؟ والى متى يؤذن بهذه الحال اللامسؤولة التي يبدو أنها تتفاقم يومياً. وهل من يلفت الى أنّ الألقاب، خصوصاً «الخبير» وعلى الأخص «الخبير الإستراتيجي» لا تأتي هكذا من دون أساس علمي، ومن دون دراسات عليا معمّقة، ومن خلال شهادات ذات طابع دولي تصدر عن المراجع الرصينة المحترمة المعترف بها في مختلف أنحاء العالم.

وإذا كان متعذراً تحديد متى تنتهي هذه الفوضى، لأنها هي الابنة الشرعية لهذا الزمن الذي يطفو على صفحة مستنقعه الكثير من البشاعات، فلا بدّ من استحضار هذا المشهد من باطن التاريخ:

«ميكيل أنجلو» (وهو أحد أعظم الفنانين العالميين الذين أبدعوا التماثيل الرائعة على مرّ العصور) كان قد أنجز أحد أعماله الفنية. وتهافتت الجماهير لتستمتع بما ابتكره من روعة… كان الجميع في نشوة أمام التمثال، الى أن تقدم أحدهم وهمس في أذن المثّال الأشهر أن هناك خطأ ما يشوب هذا العمل المبدع. ولما استسفره ميكيل أنجلو عن مكمن الخطأ أجابه إنه في الحذاء الذي يجب أن يكون غير ما هو عليه. فاستمع اليه الفنان الكبير بإصغاء وسأله: وأنت ما هي صنعتك؟ فأجاب: أنا اسكافي. فقدّم له أنجلو الاحترام ووعده بتصحيح الخطأ… وما إن أنهى كلامه حتى أشار الإسكافي الى وجه التمثال وقال: وهنا يوجد خطأ و… فقاطعه ميكيل أنجلو قائلاً: إبقَ على الأقدام!