عامان ونصف عام بلا رئيس جمهورية: «لا بأس». 9 سنوات بمجلس نيابي واحد: «عادي». 9 أشهر بلا حكومة: «لا داعي للقلق». وأما البيان الوزاري، الذي يُفتَرض أنه برنامج الحكومة لإنقاذ البلد واقتصاده وماليّته وليرته وعلاقاته العربية والدولية ومعالجة ملفات النازحين والكهرباء والنفط والفساد والحرب والسلم وأوجاع الناس، فلا يجوز تأخيره أكثر من 3 أيام تحت طائلة «خراب البلد». لقد سَلقوه ونَقَعوه ليشربوا ماءه… و«إصلاح رح ناكل»!
يستغرب كثير من المتابعين: كيف للقوى الغارقة في «كباش» طويل حول الحصص والحقائب في حكومة ستدير الملفات الشائكة في أخطر الظروف، وعلى مدى السنوات الـ 4 الباقية من العهد، أن تنجح في الاتفاق على بيان وزاري بهذه السرعة؟
في رأي هؤلاء، هناك 3 احتمالات:
-1 لا خلاف حقيقياً بين القوى السياسية، على العناوين السياسية والاقتصادية، وتالياً إنّ خلافاتها خلال عملية التأليف كانت فقط إمّا استجابة لإملاءات المحاور الخارجية، وإمّا لتحصيل أكبر مقدار من الحصص وأكثر الحقائب «دَسامة».
2- تمّت مقايضات بين القوى المسيطرة على الحكومة الجديدة: «أنا أستثمرُ هنا… وأنت حصتك هناك». والأهم هو أنّ «حزب الله» استطاع تثبيت المقايضة القديمة: «خذوا راحتكم في الملفات، واتركوا لي الأمن والاستراتيجيا».
3- إنّ الجميع يتعاطى مع البيان الوزاري بصفته مجرد واجب لا بدّ منه لمرور الحكومة إلى جلسة الثقة. ولذلك، جاءت صياغته إنشائية ولا قيمة حقيقية لها. وفي هذه الحال، يكون البيان لزوم ما لا يلزم، وتكون الثقة التي ستحصل عليها الحكومة بناء عليه عديمة القيمة.
وحقيقة الأمر أنّ التفسيرات الثلاثة صحيحة. فهناك مسائل تم التواطؤ عليها، وأخرى فرض «حزب الله» رأيه فيها، وأخرى تمّ إدراجها في أفضل صياغة لغوية لئلّا تخدش مناخ التوافق الاصطناعي.
وفي أي حال، الحكومة نسخة مصغّرة عن المجلس النيابي، مع اختلاف طفيف. والمشاركون فيها يحتكرون السلطتين التنفيذية والتشريعية، كما يتحكّمون بالسلطة القضائية ومؤسسات الرقابة. وما يتوافقون عليه لن يصطدم باعتراض حقيقي من أحد. ولذلك، أعلنوا بيانهم بجرأة، ولم يسألوا عن أحد. وظهر فيه اتجاهان خطران:
1- الاتجاه المتعلّق بالفساد: أطلق البيان وعوداً بتشريعات وإصلاحات «جريئة ومؤلمة» و»لا يمكن التهرّب منها»، لافتاً إلى مواجهة «الخلل الإداري والفساد المالي والتهرّب الضريبي».
ولكن، لم يحمل البيان رغبة فعلية في الإصلاح، بل أثار المخاوف لدى الفئات الفقيرة والمتوسطة من أنّ نهج الاستئثار الذي تمارسه فئة الأقوياء – الأغنياء، المُمسكين عملياً بالسلطة، سيستمر كما هو، وأن ما يسمّى إصلاحاً في البيان الوزاري سيكون عبارة عن إجراءات تزيد الضغوط على الفئات الفقيرة والمتوسطة لا على أصحاب المال والنفوذ.
فمَن يَضْمن «عواقب» تجميد التوظيف في القطاع العام خلال 2019، كما وعد البيان، في وزارات ومؤسسات ازداد عدد موظفيها عشرات الآلاف، تحت الطاولة، بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب؟ وكيف سيتم ضمان عدم تهافت كل زعيم لإرضاء جماعته بتوظيفات «مستترة»، فتكون النتيجة حرمان الناس العاديين من الوظيفة لمصلحة المدعومين؟ وما مغزى «إعادة هيكلة القطاع العام»؟
ويتحدث البيان عن «التعيينات في مجالس إدارات المؤسسات العامة». والمقصود هنا خصوصاً مجلس الإنماء والإعمار، الدجاجة التي تبيض ذهباً. فهل قرّر الطاقم السياسي أن يتخلّى عن الذهب؟
والكلام على توحيد الصناديق الضامنة أقلق البعض من فقدان مكتسبات. والصيغة الملتبسة لإصلاح نظام التقاعد أثارت هواجس المتقاعدين من ضياع حقوقهم.
أمّا الوعود بمعالجة العجز في الكهرباء وبالتيار 24 على 24 فهل يمكن تصديقها؟ والتقليص الموعود في عجز الموازنة، على حساب مَن سيتم؟
الواضح أنّ البيان رسالة، لا إلى اللبنانيين، بل إلى المعنيين بـ«سيدر»، مطلوب وصولها إليهم «بالبريد الضمون»، لكي يُفرِجوا عن المساعدات ويمنعوا انهياراً كان وشيكاً، وهو «عامل الرعب» الأساسي الذي دفع الجميع إلى حكومة على مَضض.
2- الصيغة الملغومة حول دور المقاومة والقرار الدولي 1701: تمّ الحفاظ على الصيغة التي تمّ التوصل إليها ذات يوم، بعد نقاش مستفيض في أصول اللغة العربية وفذلكات عباراتها، لأنّ ذلك أفضل للجميع. وهذه الصيغة مقبولة لجماعة «سيدر» أيضاً. فالأميركيون والخليجيون لم يعلنوا رضاهم عن تركيبة الحكومة، حيث القوة لـ«حزب الله»، لكنهم لم يعلنوا مواقف سلبية.
إذاً، لا قيمة للبيان الوزاري «المسلوق»، إلّا في رسائله الخارجية. ومَن يراهن على هذا الطاقم لإنجاز الإصلاح يبدو كمَن «يُجرِّب المُجَرَّب».