يستحق الزميلان رياض قبيسي وهادي الأمين تحية من جميع اللبنانيين. فلولا جهدهما الاستقصائي وبثه على هواء “الجديد” لما تحرّكت أجهزة تحقيق في سمسرات صفقة البواخر ولا بادَر قضاءٌ الى إثبات ما كان معروفاً بلا دليل حسي.
والزميلان، بخوضهما مغامرة “التنقيب” عن الفاسدين ومشغّليهم الحصريين، لا يحاولان فقط إعادة اموال اللبنانيين المهدورة أو فضح نموذج من نمط ساد في كلّ المناقصات وعلى كلّ المستويات منذ عقود، أو السعي الى سجن مخالفي القوانين، بل يكشفان أيضاً تلكؤ الأجهزة والقضاء في ممارسة أقل الواجبات في بلد منهوب ومنكوب، ويضعان كلّ مسؤول تحت رقابة عينِِ صحافية ساهرة تقاوم مخرز الإهمال والتقصير.
نشدُّ على يد المدعي العام المالي، ولا نريد التصديق بأنه “أُحرج فأُخرج” فانتفض على الضغوط وقرر سوق المتهمين. ونناشده نفض الغبار عن ملفات الفساد الكبرى المدفونة في أدراج قصر العدل وألّا يميز فيها بين قريب او بعيد. فالمواطنون، رغم اليأس الذي يعانونه من جراء الإفقار والقمع وانهيار المؤسسات ومحاولات الشرذمة الطائفية والسياسية، لا يزالون يراهنون على الدولة كي تطبق القانون على المرتكبين الكبار الذين أفلسوا البلاد، مزدرين بالقضاء ومعتبرين ان رشوة البعض بالمال او بالترقيات تضع الجميع في صف المرتشين.
سيبقى الخلاف قائماً لوقت طويل حول “أي لبنان نريد”. لكن جلاء تلك المعضلة والبحث عن الحل السحري للعبور الى دولة حقيقية لا يلغيان ضرورة الحفاظ على القائم منها، فهي نقطة الوصل وجامع الحد الأدنى كي لا نذهب الى التفكك والفوضى. ولن ييأس اللبنانيون من الرهان على قضاء يمارس دوره في زمن تخلي أهل السلطة عن واجب حماية المؤسسات ومصالح المواطنين، من غير رفة جفن أو وازع أخلاقي.
“صفقة البواخر” تفصيل اذا قيست بجريمة النيترات والمهمة التاريخية الملقاة على عاتق المحقق العدلي. لكن أهميتها تكمن في تأكيدها هوية التحالف الجهنمي الذي يُغرق السفينة ويصرّ على توجيه أشرعتها. وإذا تجرأ قاضي التحقيق فقد يرى الناسُ للمرة الأولى مشهداً يحاسَب فيه الراشي والمرتشي وتبيَّض فيه صفحة البريء في مغارة وزارة الطاقة. أما الهيبة الكاملة فلن يستعيدها القضاء اذا اكتفت صنارته بسمكة ولم تصطد حوتاً برتبة وزير.
ندرك صعوبة عمل القضاء في دولة تستبيحها منظومة استتبعت كل المؤسسات، وطوَّعت الجسم القضائي بالإغراء او الترهيب، لكن البلاد امام مفترق مصيري، وعلى القاضي حمل سيف العدل، وإلا فإنه شاهد زور إن لم يكن متواطئاً مع المجرمين.
إنجاز الزميلين استثنائي، ليس في شجاعة البحث وإرغام القضاء على التحرك فحسب، بل في كونه يعيد الى مهنة الصحافة قيمة كادت تفقدها في عيون اللبنانيين، وهي البحث عن الحقيقة بغض النظر عن الاختلاف السياسي وطرق التعبير.