قبل ساعات على وصول وزير الخارجية الفرنسية ستيفان سيجورنيه ويوم واحد على وصول نظيره البحريني عبد اللطيف بن راشد الزياني الى بيروت، رصدت مراجع أمنية واستخبارية تصعيداً عسكرياً في الجنوب على وَقع التباهي باستخدام اسلحة جديدة تزامناً مع مجموعة من الاقتراحات لخفض التصعيد في غزة والجنوب، وهو ما يوحي بتجاهلها بالحَد الادنى أو رفضها بالحد الاقصى في انتظار ساعة الصفر الضائعة بين اكثر من عاصمة. وعليه، ما الذي يمكن أن ينتجه هذا الحراك؟
عندما تتفرّغ المراجع الديبلوماسية لقراءة المشهد السياسي والعسكري في غزة وجنوب لبنان والجبهات الاخرى المشتعلة المرتبطة، لا تقف عمليات الرصد على الجولة التي يبدأها سيجورنيه اليوم من بيروت، ولا الزيارة المفاجئة للزياني إنما عليها ان تلاحق ما يمكن ان تُسفر عنه جولة نظيرهما الاميركي انتوني بلينكن التي بدأها أمس من الرياض قبل ان يقصد تل ابيب التي استقبلت امس وفدا مصريا استخباريا وديبلوماسيا رفيع المستوى ناقلاً إليها مجموعة من الأفكار قبل تحوّلها الى مبادرة في اي لحظة توصّلاً لوقف نار طويل الأمد وآلية لتبادل الأسرى والرهائن الاسرائيليين المتبقّين في قطاع غزة بعدد أكبر من المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال.
وأيّاً كانت المهمات التي يقوم بها الديبلوماسيون الأربعة، وما يسعون الى تسويقه من افكار واقتراحات تطاول الوضع في قطاع غزة وأراضي الضفة الغربية وجنوب لبنان ربطاً ببقية الجبهات الممتدة من اليمن الى سوريا والعراق بما فيها تلك الجارية في مضيقي هرمز وباب المندب، فإنّ لكل منهم حتى الآن أولوياته وآلية عمل مختلفة عن الاخرى، طالما ان معظم الجهود المبذولة لم تنته بعد الى ما يمكن اعتباره صفقة شاملة لوقف الحرب بالاستناد الى اتفاق سياسي يترجمه التفاهم على «اليوم التالي للحرب» ليحمي اتفاقا ثابتا ومديدا لوقف النار ويضمن تطبيقه على مختلف الجبهات. وهو ما لا يمكن تحقيقه ما لم تقبل به الأطراف المتورطة في الحرب وحلفائها مباشرة ومعهم مَن أتقَن إدارة المعارك من «الجبهة الخلفية» البعيدة عن مسرح العمليات العسكرية.
وفي الوقت الذي كشف كل طرف عن الغاية من جولته، يتبيّن بوضوح حجم النزاع الذي ما زال قائما في إطار السباق المحموم بين المخارج السياسية والديبلوماسية من جهة والخيارات العسكرية من جهة أخرى. فالاصابع ما زالت على الزناد على مختلف الجبهات، في موازاة التحضيرات لفصول جديدة منها قد تكون أكثر قسوة وتدميراً ان نالت إسرائيل الضوء الأخضر لاستئناف العمليات في جنوب القطاع وتحديداً في رفح كما بالنسبة الى ما يمكن ان تُبادر إليه في اتجاه لبنان، بعدما تَمادت في توسيع مساحة غاراتها الى أقصى البقاع الشمالي إثر عمليات محدودة طاوَلت بداية الضاحية الجنوبية لبيروت قبل الانتقال الى ساحل الشوف واقليم الخروب واقليم التفاح في اعالي منطقة جزين وعمق النبطية والبقاع الغربي.
وأمام مجموعة هذه المخاطر التي ما زالت مطروحة في غرف العمليات العسكرية، لا يبدو ان زيارة رأس الديبلوماسية الفرنسية يمكن ان تحقّق نقلة نوعية في مدار المبادرة الفرنسية التي طالما قد عَدّلت في شكلها ومضمونها اكثر من مرة منذ ان طرحت مجموعة الأفكار الاولى في خطتها نتيجة الصدمات التي تلقّتها، ولعلّ أبرزها ما قال فيها «الثنائي الشيعي» إنها أفكار اميركية صيغَت باللغة الفرنسية، ومنذ تلك اللحظة لم يعد يعرف لها عنوان الى أن قيل عن صيغة جديدة ينتظرها اللبنانيون للتثبّت إن كانت تحمل جديدا جاء به سيجورنيه شخصياً الى بيروت قبل ان ينتقل الى تل أبيب والرياض في محاولة جدية لتسويقها، ولتأخذ حيّزا مهما بين مجموعة الافكار الاقليمية والدولية الاخرى المطروحة إن وجدت لها مكاناً على طاولات البحث.
وقبل البحث في بقية الأفكار التقليدية والروتينية التي مَلّت منها آذان المتابعين للتطورات، ينبغي التوقف عند الحراك البحريني الذي فاجَأ الأوساط السياسية والديبلوماسية في لبنان بعدما طلبت وزارة خارجية البحرين مواعيد عاجلة استثنَت منها لقاء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، وشملت كلّاً من ميقاتي ووزير الخارجية عبد الله بو حبيب من اجل ما سَمّته «أهمية التوصّل الى حل الأزمتين العسكرية والسياسية في لبنان من خلال مسعى ديبلوماسي بحريني لإنجاح القمة العربية السنوية الدورية التي تستضيفها المنامة قريباً وللمرة الأولى منذ عقود». وفي انتظار ما سيأتي به الزياني من اقتراحات مختلفة عن نظرائه الخليجيين، تعزّزت الاسئلة عن الدور الذي تبحث عنه المملكة الصغيرة في ظل انغماس جاراتها الكبرى في مختلف ملفات المنطقة من دون ان تحقق اي تقدّم ملموس لا في فلسطين المحتلة ولا في لبنان.
لكن مصادر ديبلوماسية لفتت الى انّ دخول البحرين على خط المفاوضات لن يلامس الملفات الداخلية اللبنانية، انما هي مضطرة للقيام بحملة من «العلاقات العامة» التي لا بد منها قُبَيل انتقال رئاسة القمة العربية إليها. وقد مَهّدوا لها بما اعلن من اتصالات اجراها ولي العهد ورئيس الحكومة البحرينية الأمير سلمان بن حمد آل خليفة مع القادة العرب ووزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن على خلفية التنسيق بينهما في ما خَصّ النزاع الدائر على تخومها البحرية في اتجاه خليج عدن وصولاً الى باب المندب، حيث تستهدف صواريخ الحوثيين الناقلات البحرية للحاويات والسفن الكبرى من جنسيات مختلفة وما يمكن ان تقوم به البحرين التي تستضيف قواعد بحرية غربية وأميركية وقد تعزّز دورها في الفترة الأخيرة.
وإلى ان يَتكشّف ما يمكن ان تأتي به الزيارة البحرينية، توجّهت الأنظار الى الجولة الجديدة لبلينكن التي انطلقت من الرياض قبل تل أبيب في محاولةٍ لِوَضع اللمسات الأخيرة على مطالب السعودية الخاصة بالتفاهم على ما قيل ما معناه «أدنى حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، قبل البحث في اي خطوة باتجاه برامج التطبيع مع اسرائيل». ذلك انّ الجواب السعودي مهم في هذه اللحظة بالذات لتقوم واشنطن بطرحٍ متقدّم يُمهّد للنهائي على تل أبيب في هذا الخصوص إن أرادت اسرائيل استكمال هذه المشاريع التي أنجَزتها في دول الخليج العربي بما تستلزمه من تنازلات في الضفة الغربية وقطاع غزة قد تكون مؤلمة لمجرد انها باتت إجبارية ولم تَعد طوعية.
والى هذه الملاحظات المحيطة بالحراك الديبلوماسي، يبقى لافتاً وصول الموفد الرئاسي الأميركي عاموس هوكشتاين الى تل ابيب أمس قبل زيارة مرتقبة الى بيروت، وسط مجموعة من المؤشرات أبرزها اشتداد التجاذبات بين اركان الخماسية ونَفي أحد سفرائها ان يكون لهوكشتاين علاقة بملف انتخاب الرئيس. فجاء قبل وجود أيّ أمل في ترتيبات حدودية جنوبية ليؤكد «انّ مَن تَسلّم ملف لبنان لا يميّز بين استحقاق عسكري وسياسي ودستوري وقد باتت جميعها بالنسبة الى واشنطن في سلة واحدة». ولذلك سيحطّ هوكشتاين في بيروت لإلقاء نظرة على الاستحقاق الرئاسي ليطرح السؤال مجدداً إن كان هناك ما يُبرّر زيارة وزير خارجية البحرين تمهيداً للقمة العربية، فما الذي جاء ليفعله وزير خارجية فرنسا في بيروت؟