IMLebanon

«الدعسة الناقصة» في الحرب على «داعش»

 

قبل أن تنتقل إلى مرحلة «استئصال داعش» يجب، أقلّه، أن تكون قد تمكّنت من منع «دولة» هذا التنظيم من أن تتمدّد سواء في العراق أو في سوريا، أما إذا كنت عقدت العزم على البدء من الآخر، أي بمرحلة التقويض والاستئصال، على ما اختارته هذه الإدارة الأميركية، فهذا يفترض وجهة أساسية يُصار الى البناء عليها: فإما أنه رهان على القضاء السريع على النخاع الشوكي للتنظيم، ما يفترض منفذاً وخزان معلومات وإحداثيات استخباراتية للوصول الى هذا النخاع وتحطيمه، وإما رهان على قلب الطاولة على هذا التنظيم في المناطق التي يسيطر عليها، ما يفترض معطيات أهلية وعشائرية يمكن البناء عليها في ظروف أصرّ فيها النظام السوري وحكومة نوري المالكي على مدى سنوات على توسيع تهمة الإرهاب لتطال من يتعرّف على هويته في المزدوجة «العربية – السنية»، وإما أنه رهان على تعطيل بيع «داعش» للنفط، علماً أن الفكرة الأميركية الأساسية هي أن «داعش» طليعة الإرهاب الدولي وتمويله جزء من الاقتصاد السياسي العالمي للإرهاب وليس حالة انعزال اقتصادي تبحث عن اكتفاء ذاتي ببيع النفط خارج «منظمة أوبك» ليس إلا، وإما أنه رهان على تحرك دول إقليمية لمنع هذا التنظيم من التمدد على الأرض فيما تشن أميركا وحلفاؤها عليه «الحرب الاستئصالية» من الجو.

لكن اذا كنت تفتقد أي معطيات جديّة تتيح لك أن تراهن على أي عنصر من هذه العناصر، عندها تصبح «الحرب الاستئصالية» على «داعش» في خدمة «التمدّد الداعشيّ» على الأرض.

لقد اختار باراك أوباما في حربه على «داعش» نمطاً من العمليات الهجومية بالغ الغرابة، لكنه في الواقع النمط الذي بات تقليدياً لخوض أميركا لحروبها. هي تشن حروبها بدعوى خرق «المذنبين» للقانون الدولي أو ممارستهم للإرهاب الدولي، لكن وسيلتها العقابية هو تدمير البنى التحتية على القاطنين فوقها وتحتها. وهذا ينفع مع صدام أو ميلوسوفيتش أو حتى مع الطالبان، الى حين، لكنه في حال «داعش» إنما ينذر بتحويل أعتى الضربات الأميركية الى مؤشر أحوال جوية، يفترض من «داعش» نمطاً آخر في نشر وحداته القتالية وفي التنقل لكنه لا يمنعه من تكملة ما يقوم به، بل على العكس، يقوي اللحمة بين الجهاديين المنخرطين تحت لوائه أو المتوجهين للانضمام اليه عبر العالم. الاستباحة الداعشية للمناطق الكردية في الشمال السوري تندرج ضمن هذا الإطار. 

تدمير البنى التحتية، وفي طليعتها المنشآت البترولية، في مناطق سيطرة «داعش» من دون وجود أي خطة لتأمين مستلزمات المرحلة التي يُفترض بديهياً أن تكون الأولى، أي وقف عملية تمدد التنظيم من كل الجهات، إنّما ينذر بمزيد من الشرور في سوريا والعراق. أكثر من هذا، يبدو الأمر كأنه هروب الى الأمام. لا تستطيع أن تضرب النظام الأسدي وتقتلعه، فتضرب «داعش» مبتغياً اقتلاعه، ولا تفلح في وقف تمدده فترفع السقف الى طلب استئصاله. بالتوازي، يأتي الانقسام السنّي – الشيعي، والعداء التركي – الكردي، والسلبية العربية – الكردية، والطابع الفج جداً للأطماع الإيرانية، ليعطي كل هذا زاداً لتنظيم «داعش». 

في مالي، كانت هناك وحدات كومندوس فرنسية وقوات برية لضرب الإمارة الجهادية هناك. في الصومال، كلّفت اثيوبيا بضرب حركة الشباب. في حال العراق، يصرّ أوباما وفريقه في الوقت نفسه على أنّ الانسحاب كان ضرورة في موعدها، وأن الحرب مع «داعش» هي لاستئصاله، وأن هذه الحرب لن تكون برّية. هذه متناقضات لا يمكن أن تجتمع في تأليف مفيد. فالانسحاب لم يشكّل سوى لحظة استعادة الحراك الزرقاوي أنفاسه وتوحيد رايته، واستشراء الصبغة المذهبية للحكم العراقي. واستئصال «داعش» هروب الى الأمام طالما لم تنجز عملية «منع تمدّده». أما الامتناع عن الحرب البرّية، فهو محاولة بائسة لتطبيق نموذج الخوض الأميركي والأطلسي للحرب الليبية، إنما هذه المرة ضد تنظيم لا يستخدم الطائرات لقتل الناس بل يدمج بين الأعتدة الحربية الحديثة وبين السلاح الأبيض. 

حتى الآن، ثمة «دعسة ناقصة» ابتدأت بها الحرب على «داعش»، لكنها ليست مجرّد أخطاء تقنية كان بالمقدور تلافيها. فالانسحاب من العراق من الصعب تخيّل باراك أوباما يعود عنه، وتركيا من الصعب أن تقوم بدور اثيوبيا في الصومال، وأصعب من ذلك أن تقوم بهذا الدور إيران.