لا شك في ان الوضع الاقتصادي اللبناني لم يَعد يحتمل المعالجات العشوائية المؤقتة، فيما يستمرّ هدر المال العام لمصلحة الأشخاص الذين لهم دعائم سياسية أو المتنفذين منهم. وإذا دلّت الارقام المتداولة في مشروع قانون الموازنة العامة لعام ٢٠١٩ على شيء فهي تؤكد ان لا رؤية واضحة مكتملة لدى السلطة لإيجاد حلول منطقيّة ومستدامة للأزمة المالية الراهنة وأنها لا ترى حلاً سوى من جيوب الناس.
وفي حين يتطلّع اللبنانيون الى خارطة عمل ترتكز في الأساس الى حاجاتهم وهمومهم المعيشية والاجتماعية والإنسانية، يتواتر الحديث عن قرارات صعبة سوف تطالهم في لقمة عيشهم، وهي مبنيّة على توصيات الاستشاري «ماكينزي»، التي نصحت بالمزيد من تحرير رأس المال والخصخصة، وخفض رواتب وأجور القطاع العام، وخفض الدعم على الكهرباء والبنزين، وانتهاج سبل النموّ عبر الاستدانة من خلال «سيدر»، ورفع الضريبة على القيمة المضافة وفرض إجراءات ضريبية إضافية، ورفع تعرفة الماء وفاتورة الهاتف، وغيرها من الإجراءات التي تثقل كاهل المواطنين.
الّا ان هناك عدداً من الخطوات والبنود الاساسية التي يُمكن اعتمادها لإصلاح الوضع المالي العام، ولو جزئياً، دون المساس بلقمة المواطن التي باتت مُرّة وفي خطر، بدءًا من تجفيف مزاريب الهدر ويليها ترشيد النفقات من خلال موازنة تقشفّية، ثم زيادة الواردات، ما يسمح بتحسين حالة المالية العامة واعادة عجلة التنمية الاقتصادية إلى حالة الدوران.
في الشق المتعلّق بهدر المال العام، على الحكومة ان تلتفت الى الأمور التالية: اولاً، يجب العمل على تقويض التهرب الضريبي الذي يخسِّر الدولة ما يقارب ٥ مليارات دولار سنوياً من أبواب رئيسيّة عدة أهمّها التهرّب من ضريبة الدخل، والضريبة على القيمة المضافة، ورسوم الجمارك، بالإضافة إلى رسوم الكهرباء وضريبة الملكيّة. وأحد اهم إجراءات مكافحة التهرب الضريبي يتمثل بربط بيانات القطاع المصرفي بالدوائر الضريبية المختلفة والهيئات والإدارات العامة.
ثانياً، تضييق نطاق القطاع العام والغاء المؤسسات غير المنتجة التي تكبد الخزينة خسائر بملايين الدولارات سنوياً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يكلّف الدولة ٤٣ مليار ليرة سنوياً: المؤسسة العامة للأسواق الاستهلاكية التي تتقاضى ٨.٩ مليار ليرة سنوياً؛ المؤسسة الوطنية للاستخدام ٣.٥ مليار ليرة؛ المديرية العامة للبريد ٦.٧ مليار ليرة؛ مصلحة سكك الحديد والنقل المشترك ١٣ مليار ليرة؛ المجلس الوطني للعَلَم اللبناني ٤٠٠ مليون ليرة؛ المجلس الوطني للإعلام ١.٩ مليار ليرة؛ المجلس الاقتصادي والاجتماعي ٣.٨ مليار ليرة؛ المجلس الأعلى للطفولة ٧٠٠ مليون ليرة؛ المجلس الأعلى السوري اللبناني ٧٠٨ ملايين ليرة؛ المجلس الوطني للسلامة المرورية ٢ مليار ليرة؛ اللجنة الوطنية لليونيسكو ٦٣٠ مليون ليرة؛ لجنة الحوار اللبناني – الفلسطيني ٢٤٠ مليون ليرة؛ اضافةً الى معرض رشيد كرامي الذي يكلّف الدولة ٤٠٠ مليون ليرة سنوياً.
ثالثاً، توقيف او تقليص الدعم المالي للهيئات والشركات والمشاريع والجمعيات غير الفاعلة التي تكبد الخزينة خسائر بعشرات ملايين الدولارات سنوياً، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يكلّف الدولة ١٣٧ مليار ليرة سنوياً: هيئة قطاع البترول ١٥ مليار ليرة؛ المجلس الأعلى للخصخصة مليار ليرة؛ مؤسسة «اليسار» ٣.٣ مليار ليرة؛ مشروع تعزيز قدرات مجلس الوزراء ٢.٨ مليار ليرة؛ اضافةً الى المدارس الخاصة المجانية الممولة من الدولة سنوياً بمبلغ ١١٥ مليار ليرة، والمليارات التي تصرف من وزارات الشؤون الاجتماعية والرياضة والشباب والثقافة وغيرها، على الجمعيات الوهمية المتعاقدة معها.
رابعاً، تقليص بدلات إيجارات الوزرات والاستعاضة عنها ببناء مجمع خاص بالوزارات تملكه الدولة، خصوصاً ان الدولة تدفع أكثر من ٦٠ مليون دولار على إيجارات مكاتب الوزارات والإدارات العامة وصيانتها. وهناك مبانٍ مستأجرة بالرغم من انها مهجورة وغير صالحة للاستعمال كالمبنى التابع للجامعة اللبنانية في المنصورية التي تدفع الدولة حوالي ١٧٩ مليون ليرة سنوياً بدل ايجار له، ومبنى وزارة الاشغال العامة في الشياح. كما يجب على الدولة تقليص بدل ايجار مبنى «الاسكوا» الذي تدفعه والبالغ ١٥ مليار ليرة سنوياً، والعمل على إيجاد مبنى آخر اقل تكلفة؛ كذلك الامر بالنسبة الى مبنى منظّمة «الفاو» المستأجر بقيمة ٦٠٠ مليون ليرة سنوياً.
امّا الشقّ المتعلّق بترشيد الاِنفاق وزيادة الإيرادات فسوف يتم تناوله في الجزء الثاني من هذه المطالعة.