الثامن من آذار بجناحها، القائد والرائد والممسك بالسلاح وبسلطة الإمرة، وجناحها المنفذ والمتحفز والغاطس حتى أذنيه بالرغبة الجامحة لاحتلال موقع رئاسة الجمهورية بأية وسيلة وأي ثمن، الثامن من آذار هذا يستنفر في هذه الأيام كل قواه الإعلامية والتحريضية والإفترائية ليصبها غضبا على تيار المستقبل وما يمثله على الصعيد الوطني واللبناني عموما، وعلى الصعيد الإسلامي خصوصا، ويتمثل ذلك في الكلمات والتصريحات والتسريبات التي يطلقها أركانه بدءا من رأسي الهرمين في تركيبته مرورا بوزرائه ونوابه، ووصولا إلى الناطقين باسمه في المظاهرات والمهرجانات واللقاءات ذات الطابع الطائفي والمذهبي.
وفيما تيار المستقبل يستجيب للرغبة المستمرة للرئيس بري في متابعة الحوار مع حزب الله، تلطيفا وإطفاء للإحتقانات الوطنية والمذهبية التي تعبق بها الأجواء، وفيما يستجيب هذا التيار إلى الرغبة الوطنية بحصر الحرائق التحريضية التي لم يتوقف التحريض باتجاه إذكاء لهيبها، ولنا في ما صدر عن قيادات الحزب وحليفه التيار من كلمات ومواقف وتصريحات تعجّ بالنفس الطائفي المذهبي الحافل بالتجني والمواقف الإستعلائية، خير إثبات وأوضح دليل، وآخرها ما أورده سماحة السيد في كلمته العاشورائية «الهادئة والرصينة»: من يترك الحوار والحكومة… الله معه!
ومما لا شك فيه، أن الحوار الجاري على مستوى الحزب وتيار المستقبل وما لحقه، من حوار وطني هيأ له وحفّز باتجاهه، الرئيس بري، مطفيء الحرائق وملطّف المواقف التحريضية، والمتكلم بقدرة مستمرة باللغة العربية التي يفهمها الجميع متجنبا مخاطبتهم باللغة الإيرانية التي يتقنها فريق بعينه ويجهلها ويواجه مراميها معظم اللبنانيين، مما لا شك فيه أن هذين الحوارين قد أديا بعض المقصود منهما ونجحا في عملية التخفيف والتلطيف والإحاطة باللهب منعا من انتشاره وتمدده إلى الأخضر واليابس، ولكن واقع الأمر في هذا البلد المنكوب، وتطور الأحداث في الداخل وفي الجوار، بات يدل على تحولات سلبية، أشار إليها وزير الداخلية نهاد المشنوق في كلمته الأخيرة في ذكرى استشهاد اللواء وسام الحسن وعدد من المسؤولين الآخرين، فنوه كل منهم بالوضع المتردي الذي وصل إليه الوطن ووصلت إليه الدولة من خلال مسيرة تعطيل مفاصلهما ومؤسساتهما كافة. ومن بينها، رئاسة الجمهورية التي تعاني من وأد مستمر وطمس لمعالم وجودها منذ ما يناهز السنة والثلاثة أشهر، ومجلس النواب منعدم الوجود والعاطل عن العمل التشريعي والرقابي منذ مدة طويلة، ولئن كان مجلس الوزراء هو المؤسسة السياسية الوحيدة التي ما زال لها بعض من نفس وبعض من وجود، فهي الأخرى تتعرض منذ تأليف هذه الحكومة، وبصورة تصاعدية، لعمليات محاصرة ومناهضة وتعطيل شبه شامل، وبات الأمر يستلزم إذنا خاصا وسماحا إستثنائيا من التيار الوطني الحر، مشفوعا بإذن مسبق أو ملحق من حليفه الممسك بجميع المفاصل والمنسق لجميع المواقف، يدفع إليها إذا شاء، ويمنع حصولها اذا لم يشأ، وبات مجلس الوزراء ممنوعا من كل رغبة في الحركة ورئيس مجلس الوزراء محاصرا وممنوعا عن ممارسة صلاحياته وواجباته الدستورية والقانونية، وعن التصرف والعمل، نتيجة لما يلاقيه من أعمال شغب وتظاهرات تعطيل داخل الحكومة وخارجها، ولنا في موقف وزير الخارجية «اللائق والمهذب والرصين» خلال تلك الجلسة المشهورة لمجلس الوزراء والتي قلب فيها وزير الديبلوماسية اللبنانية وأعوانه، رصانة وهيبة مجلس الوزراء إلى شارع متفلّت حفل بما وصل إلى اللبنانيين جميعا بصورة تفصيلية، وبالصوت والصورة التي تم تعمُّد حصولها بصورة مدروسة تحت الأضواء الكاشفة والفاضحة، ومن لا يستحي، يفعل ما يشاء.
وأمام هذا الشلل الذي يحاط به مجلس الوزراء، وأمام تعطيل مصالح الناس وحقوق الوطن التي يضيع الكثير منها نتيجة للمواقف المتراوحة في مواقفها ومقاصدها بين اجتراح كل المعجزات ومواجهة كل المستحيلات وصولا إلى رئاسة الجمهورية، وبين الإستمرار في عملية هدم أسس هذه الدولة «السيدة والحرة والمستقلة» والتي بنيت على حد أدنى من الأصول الديمقراطية، وعلى حدود أساسية ورئيسية من ميثاق وطني دفع اللبنانيون في سبيل المحافظة عليه، أثمانا غالية. وها هي المبادئ والأسس التي نشأ عليها الوطن يتم اختراقها واحدة بعد الأخرى بصورة فجّة وروح إنقلابية مرتكزة على أسس شخصية، ومركزية عائلية حادة، متخذة شعارا أساسيا لها: أنا أو لا أحد… ومن بعدي الطوفان.
وها هي المقاومة التي أيدها الشعب اللبناني وهلّلت لها وباركتها الشعوب العربية، في مرحلة المجابهة والصمود، تنكفيء عن كل مواقفها ومجابهاتها للعدو الإسرائيلي، لتقاتل بشراسة، الغالبية الكاسحة من الشعب السوري التي ثارت ضد نظام ديكتاتوري مستفحل، ألحق بها مئات الألوف من القتلى والجرحى، وملايين المهجرين والهاربين من الموت تحت دكّ الطيران لمنازلهم وأماكن رزقهم، لتصبح المقاومة شريكا لذلك النظام، وحديثا، رفيقا لمحتل جديد تمثل بجيش الغزو الروسي، الذي يجاهر بأنه ينسق في عدوانه مع الكيان الإسرائيلي.
وها هو مجلس الوزراء، تضيق الحدود من حوله ويصعب التنفس على رئيسه وأعضائه، ويصبح ما تبقى له من دور… في خبر كان، وأُلحق عمليا بزمالة موقع رئاسة الجمهورية ودور مجلس النواب، الأمر الذي عبّر عنه رئيس مجلس الوزراء إلى حد التصريح بأنه سيرمي قفازه في وجه المعطلين لانعقاد جلساته ولاتخاذ مقررات ملحّة لم تعد البلاد قادرة على استمرارية تعطيلها.
وكان طبيعيا أن يصرّح وزير الداخلية نهاد المشنوق تعليقاً على ما هو قائم ومستمر: لا… ما ماشي الحال، مركّزا على أمور كثيرة وفي طليعتها عملية التعطيل المقصودة والممنهجة للخطة الأمنية المتعلقة بالبقاع التي وضعها الوزير وتم التوافق عليها مع الحزب الذي تعهد بتنفيذها، إلاّ أنها بقيت تعهدات حبرا على ورق.
وكان طبيعيا أن يعتبر هذا الوضع في حال استمراره، مؤشرا إلى مستجدات خطيرة متوقعة، يصبح فيها مجلس الوزراء بصلاحياته الرئاسية القائمة، هو الآخر، في خبر كان.
وما دام السعي إلى غايات مستحيلة، مستمرا بشتى الوسائل، وفي طليعتها خنق الدولة ومؤسساتها توطئة لفرض نظام جديد لا علاقة للبنانيين بأسسه ومطامحه وقواعده المرفوضة، ستستمر هذه البلاد بقواها الوطنية المختلفة، في الدفع باتجاه القواعد والأسس الميثاقية الحقيقية بعد تخليصها من المساويء والأدران، متجاوبة إلى أقصى قدر ممكن مع دعوات أصحاب الرؤوس الهادئة، إلى ضبط النفوس والمواقف، صونا لما تبقى حتى الآن من ملامح الدولة الباهتة ومن معالم الوطن المنكوب.