IMLebanon

سرقة المال العام على الطريقة الأوكرانية

محاربة الفساد بهدف التخفيف من منسوب الهدر، واعادة الحد الأدنى من الثقة الى المجتمع اللبناني، واحدٌ من الأهداف الرئيسية التي رفعها العهد الجديد. لكن المهمة لن تكون سهلة خصوصا ان كارتل الفساد يمسك بمفاصل الدولة ويختبئ وراء متاريس عدة، من أهمها المشاعر الطائفية التي صار تحريكها أسهل من السابق.

هناك مسارب ومزاريب متعددة في الدولة تقود كلها الى الهدر وسرقة المال العام. واذا كان العهد الجديد يريد فعلا ان يحقق انجازا في اتجاه خفض منسوب الفساد الذي صار طاغيا في كل المؤسسات العامة ولدى الطبقة السياسية، لا بد من إحداث صدمة معنوية تعطي الانطباع بوجود نية لسلوك هذا الطريق، لأن ثقة المواطن في هذا النوع من الشعارات تراجعت الى مستويات دنيا، وصار من الصعب إقناع الناس بوجود نية حقيقية للقضاء على الهدر والسرقات.

لا توجد دراسات فعلية حول المبالغ المالية التي يتمّ هدرها او سرقتها سنويا، لكن ما يتوفر من اجتهادات يشير الى مبالغ طائلة تتراوح بين مليار و3 مليار دولار سنويا. وهو رقم ضخم قياسا بحجم الموازنة، (حوالي 5 الى 15%)، وحجم الاقتصاد (بين 2و6%).

هذه التقديرات تتناول الهدر المباشر، واذا ما أضيفت المبالغ التي ترتبط بالقطاع الخاص، والتي تشمل عمليات التهرّب من الضرائب، فانها قد تتجاوز هذا الرقم بنسب لا يستهان بها.

هذا الواقع يعني ان السرقة المعشعشة في القطاع العام تنسحب على القطاع الخاص الذي يتصرف على اساس ان المال العام سائب، وتتم سرقته، وبالتالي من البديهي ان يعمد هذا القطاع الى محاولة الافادة من هذا المناخ لتحقيق ارباح اضافية غير مشروعة، وذريعته في هذا السياق، انه لا يجوز ان يدفع الضرائب بشكل قانوني وتام، اذا كانت نسبة كبيرة من هذه الايرادات سوف تذهب الى جيوب الفاسدين، وليس من اجل تحسين قدرات البلد، وتنفيذ مشاريع استثمارية تعود بالفائدة على الاقتصاد، وعلى مستويات معيشة المواطنين.

من هنا يبدو الفساد اليوم بمثابة مناخ عام لا يمكن مواجهته باجراءات جانبية تطاول بعض النقاط دون أخرى. ولا بد من التركيز على تعديل بعض القوانين، وعلى السعي الى تطبيق أخرى، لأن المشكلة في حقيقتها لا ترتبط فقط ببعض التشريعات الناقصة او المشوهة، بل في وجود نية وقدرة على تطبيق القوانين.

تجربة أوكرانيا

في هذا السياق، لا بد من ايراد النموذج الاوكراني في مجال مكافحة الفساد والتي بدأتها السلطات هناك في وقت متأخر بعدما لاحظت ان حجم الهدر في المال العام بلغ مستويات مقلقة.

ما ينبغي التوقف عنده في هذه التجربة يتعلق بنقطتين:

الاولى، حجم الاموال التي تبين ان السياسيين وموظفي القطاع العام الكبار يمتلكونها.

الثانية، طريقة الاحتفاظ بالأموال لحمايتها.

في النقطة الاولى، تبيّن نتيجة قانون إلزام السياسيين وموظفي القطاع العام بالافصاح عن ثرواتهم، ان الوزراء الاربعة والعشرين في الحكومة القائمة يمتلكون حوالي 7 ملايين دولار نقدا. في حين ان مجموعة الثروات غير النقدية لهؤلاء لا تزيد عن 50 مليون دولار. هذه الوقائع تشير الى هزالة هذه الثروات اذا ما أردنا مقارنتها بثروات 24 وزيرا في لبنان.

في النقطة الثانية، تبين ان الاحتفاظ بالاموال نقداً لا يرتبط باخفائها فحسب، بل يتعلق بعدم ثقة السياسيين بالنظام المصرفي الاوكراني الذي تعرض لهزات، وخسر المودعون اموالهم اكثر من مرة في مصارف انهارت واختفت.

هاتان النقطتان تقودان الى استنتاج مفاده اولا ان حجم الفساد عندنا تجاوز كل تصوّر، ونستطيع ان نعثر على مبلغ الخمسين مليون دولار لدى موظف واحد لدينا، من المصنفين من فئة الكبار، حيث تبلغ السرقة مستويات ضخمة. وثانيا، ان قطاعنا المصرفي آمن ولا ضرورة الى الاحتفاظ بمبالغ نقدية لحماية الثروة. لكن هذه الايجابية لديها جانب سلبي، وهي انه لا يفترض ان تتحول مصارفنا الآمنة الى مخابئ آمنة للمال الوسخ.

انطلاقا من هذا الواقع، لا بد ان تكون اولوية العهد، اذا أراد محاربة الفساد بجدية، ان يبدّل اولا في المناخ العام السائد، وان يعمد ثانيا الى تعديل القوانين للتماهي مع هذه الارادة، بدءا بقانون الاثراء غير المشروع الذي لم يتم استخدامه ولو لمرة واحدة منذ إقراره بالشكل المعروف.

ومن المؤكد ان عدم استخدام هذا القانون لا يرتبط بشح الحالات التي ينطبق عليها، لأن المال العام المسروق واضح للعيان، في كل زاوية في البلد.