كنتُ، في ما مضى، كلما قرأتُ قصيدة محمود درويش الرائعة “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، أشعر بشحنة متجددة من القوة والأمل تعتري كياني، وأهزّ برأسي موافقةً: “حقاً يا صديقي محمود، ثمة ما يستحق أن نعيش لأجله، على رغم الأهوال كلّها”.
أما اليوم فبتُّ كلما قرأتها، تلك القصيدة، أهزّ برأسي مشكّكة: “أنت ونحن واهمون أيها الشاعر الجميل. نيّالك حيث أنت، بمنأى من هذه الأرض”.
كنتُ، في ما مضى، كلما أعدتُ مشاهدة فيلم “أفاتار” لجيمس كامرون، أهزّ برأسي منتشية، وأشعر بنفسي متحررة من ربقة هذا العالم التعس، وأصدّق أن عالم باندورا ممكن، وفي المتناول.
أما اليوم فبتُّ كلما شاهدتُه، أهزّ برأسي هازئة، بعدما هزمتني، بل هزمتنا، وحوش هذه الأرض ودمويتها وانتهازياتها ومادياتها وعسكريتارياتها ولا عقلانيتها وتطرفها.
كنتُ، في ما مضى، كلما تأملتُ لوحة لشاغال أو استمعتُ الى مقطوعة لرافيل مثلاً، أهزّ برأسي مستحسنة، وأفكّر أن الخلق والفن لا بد سينتصران على البشاعة والقتل.
أما اليوم فبتُّ كلما تأملتُ واستمعتُ، أهزّ برأسي متحسرة، وأتذكر الثروات التي يتم تدميرها في المتاحف، ولا أملك سوى أن أتنهد: “يا ضيعان هذا الجهد”.
هذا التغيّر في حركة الرأس، من “نعم” الى “لا”، أو من “ممكن” الى “مستحيل”، إن هو سوى مرآة لانقلاب في أحوال الروح. وهو انقلابٌ أعلم تمام العلم أنه لا يعنيني وحدي، ولم يصبني دون سواي، بل هو حال عامة لم يعد يزمط منها حتى أشرس المتفائلين وأشجع الدونكيشوتيين. إنه اليأس. إنه القرف. إنه “طلوع الروح” يا أصدقائي.
جميعنا، على ما أظنّ، يريد العيش في عوالم قصيدة درويش وفيلم “افاتار”، ولوحات شاغال وموسيقى رافيل. جميعنا يريد دهشة الحلم بدلاً من هذه الكرة الأرضية التعسة، والإيمان بغد أفضل بدلاً من هذا الواقع المؤلم، والالتحام الخلاّق بالإنسانية بدلاً من هذا الاغتراب العقيم عنها. نريدها لكي نعيش في تناغم مع أنفسنا، ومع مَن حولنا. نريدها لأننا لم نعد نتحمّل هذه المطرقة المعذِّبة التي تنهال قرعاً في رؤوسنا وتحذّرنا من الاستمرار في الاستسلام. لكننا كبرنا، للأسف، وصار الأمل ثوباً ضيقاً علينا.
كنتُ في ما مضى أصرّ على رؤية النصف المليء من الكأس، على التمسك بحكمة “ربّ ضارة نافعة”، على قول جملة من نوع “غداً يوم آخر”.
أما اليوم، إذ أجدني عالقة على متن هذا القطار الجحيمي الذي اسمه الكرة الأرضية، لا حيلة عندي إلا ترداد ما قاله الشاعر فوزي يمين: “توقفوا! أريد أن أنزل”.