إثنا عشر عاماً باتت تفصلنا عنك يا شهيد لبنان، يا شهيد الشرق العربي، يا شهيد الحرية، يا شهيد الحب والربيع. إثنا عشر عاماً ارتفعَت فيها آمالنا ثم وُئِدت ثم انبعثَت من جديد. إثنا عشر عاماً بدت فيها سكّة الحرية تُراوح مكانها في لحظة، وتقفز فوق كل الحواجز في لحظة، وتدور حول نفسها في لحظة. كنتَ فيها الذاكرة، كنتَ فيها الوجدان، كنتَ النموذج الذي نعود إليه كل مرة نحقّق فيها خطوة في اتجاه الحرية، والذي نشتكي إليه كل مرة نتعثّر في الخطوِ باتجاهها.
الجردة عسيرة.. المنطقة العربية ترزح تحت أغلال من كذا صنف، يجمعها قهر الإنسان، قهر إرادة العمل والإبداع والتحرّر والرقيّ. التوتاليتاريّات، الإرهاب، الإرهاب ضد الإرهاب، الظلامية، هجرة شبابنا، ارتفاع العنصريات، طغيان الانفعالية.
بوجه كل هذا كنتَ وما زلتَ يا سمير قصير تجسيداً للعقل. العقل الحرّ الفرد الملتزم قضايا وطنه وأمّته، المُوازِن بين حرية اللبنانيين وحرية السوريين وحرية الفلسطينيين وحرية العراقيين. الذي يرى إلى خارطة المنطقة بعينين فسيحتين، ثاقبتين، شاملتين، متّقدتين، ويؤمن بأن الحرية تؤلّف بين الشعوب، والطغيان يقسم الشعب الواحد.
فهل نخبرك عن خان شيخون وأطفال قضوا مرة جديدة بغاز السارين يا سمير؟ أو عن اكتشاف أمر المحرقة، أجل المحرقة، مثل النازيين تماماً، في صيدنايا، لإحراق جثث المعتقلين الذين يُعذَّبون حتى الموت، فيُمثَّل بعد ذلك بجثثهم ثم تُحرق الجثث لطمس معالم الجريمة؟
وهل هذا النوع من الجرائم الوحشية يمكن أن يخفى؟ اغتيالك كان كفيلاً بإيقاف إبداعك عند ساعة معيّنة. لكنّ إبداعك ونتاجك، وما كتبتَه وما علّمتَه ما زال حيّاً، حيويّاً، مبادراً، محرِّكاً، ينظر إلى الأمور بتميّز والتزام، بوطنية وكونية، بروح الانتماء إلى قيم التنوير والعقلانية والتقدّم والعلم والتسامح، والانتساب إلى المشروع الديموقراطي التحديثي الذي من دونه عبثاً تكون تنمية، وعبثاً يكون صمود، وعبثاً يكون تقارب بين الشعوب العربية.
نجتاز صحراء الألم والتيه والتجارب التي لا تنتهي. شهادتك هي النجم الذي يرشدنا في المسير. كُتبك دليل الطريق. صوتك يُلهينا عن الوحشة في رمال هذه الصحراء. قلبك واحة تروي ظمأنا كلّما أعْيَتنا المسيرة.
مؤسف أن لا تكون بيننا لتؤرّخ اثني عشر عاماً مضت، بحلوها ومرّها، بوعودها وانكساراتها، بالأمل الذي يضيع فيرجع، بإرادة الشعوب المنتصرة في النهاية، بالحرية التي مهما دار الزمن ولفّ ستُكتب لها الغلبة ضد الطغيان، ضد الارهاب، ضد الإبادات الجماعية والتطهير العرقي والمذهبي.
مؤسف أن لا تكون معنا مباشرة، لكنك معنا ولو من وراء الستارة، بين خفايا السطور، في السطور، في الأفئدة والدموع والحناجر وفي كل ابتسامة تعاند ثقافة الموت والذل والقهر والاستقالة من إنسانية الإنسان ومن عقلانية العقل.
في عليائك تراقبنا. وفي الصحراء التي نجتازها طمعاً في الخروج من تيهنا نشتاق إليك. هل ما زال علينا الكثير لنجتازه حتى نخرج من المحنة؟ مضى الكثير، وتبقى أيضاً فترة غير سهلة، لكن كما إيمانك بإرادة الحرية، إيماننا، وكما حبّك لتاريخ هذه المنطقة من العالم هو حبّنا لمستقبلها من بعد الكوابيس والكوارث والمجازر، من بعد الليل الظلامي الطويل.
تُكتَم أنفاس، تُكمّ أفواه، يُنكَّل بأحرار، تُقهر الجموع، يُهجّر الأبرياء من منازلهم، قراهم، تتخلخل مجتمعات، تتصدّع أنظمة. لكنّ ربيعك يقف ضاحكاً، عارفاً بالمآل الذي ليس منه مفرّ. مآل الأنظمة الشمولية مزبلة التاريخ، ومآل شهداء الحرية المجد في الحاضر وفي التاريخ، ملحمة من لحم ودم، من صوت وقلم، من تفكير والتزام وألم.
لن ننسى بالذات قضيتك. قضية أن مجرمين لهم أسماء محددة، وظائف محددة، قاموا باغتيالك بكل سفالة وجبن في صباح بيروت العصيّة والحرّة رغم كل عذاباتها، رغم كل الجراح. لن ننسى أن العدالة ما زالت تنتظر. تأخَّرَت كثيراً، لكنها لا بد آتية لك ولكل الشهداء. هذا مع أن القناعة التي صارت يقيناً، صارت اليوم إيماناً، بأن قاتلك صار الآن يقتل شعوباً بأكملها، يفخّخ الجغرافيا والديموغرافيا وليس فقط سيارة. لكن من يفخخ الجغرافيا والديموغرافيا والحضارة، ماذا سيفعل به التاريخ؟
أنت المنارة وهم الظلام. هم مدمّرو الحضارة والمجتمعات العربية، وأنت روح الحياة التي يشتاقها أحياء بلا روح.. وما أكثرهم في شرقنا المذبوح.