IMLebanon

من حكايا لبنان السياسية.. قصة الحوار في لبنان منذ العام ١٦٩٧ الحلقة الرابعة

 

من حكايا لبنان السياسية.. قصة الحوار في لبنان منذ العام ١٦٩٧ الحلقة الرابعة

حوار «القوّة الثالثة» فشل عام 1958 وحوار 1969 أنتج إتفاق القاهرة

 

إذا كان الحوار العميق قد افضى إلى الوصول للاستقلال وقيام الكيان والدولة، إلا أن وعود الحكومة الاستقلالية استمرت وعوداً، وظلت كل البنود الاصلاحية التي تضمنها البيان الوزاري الأول لحكومة الاستقلال عام 1943 تصلح لكل الحكومات التي توالت على البلاد، وهكذا كان لبنان يشهد على مر تاريخه الاستقلالي ازمات وطنية كبرى، مع مزيد من الحوارات، كانت تنتج احياناً سلاماً، وفي أحيان كثيرة تكون مقدمة لأزمات وزيادة شقة الخلاف وتوسيع الانقسامات الداخلية وحروب أهلية.

ومع كل عهد، كان لبنان مع الاسف الشديد، يشهد أزمة كبرى، كان العامل الخارجي يلعب دوراً مؤثراً فيها، فتارة يكون معطلاً لأي شكل من اشكال الحوار، وطورا يكون حاسما في التلاقي والوفاق والوئام.

هكذا سقط العهد الاستقلالي الأول في منتصف ولايته المجددة عام 1952، وانتخب الخصم اللدود لبشارة الخوري النائب كميل شمعون رئيساً للجمهورية بدعم مباشر من بريطانيا وأديب الشيشكلي في سوريا، وليس أبداً بفعل ما شهده الوضع اللبناني من انقسام، فشمعون لم يكن يمثل الأغلبية على المستوى النيابي، والمعارضة لم يكن لديها الأكثرية الشعبية الكاسحة التي تأهلها لانتخاب رئيس منها، ولكن النواب اللبنانيون جاءوا بشمعون بواسطة صندوقة الاقتراع الزجاجية التي دارت عليهم في القاعة العامة في مجلس النواب بفعل الوحي البريطاني والسوري آنئذ.

 

منذ انتخاب كميل شمعون عام 1952 حتى العام 1954، اعتمد سياسة خارجية معتدلة مستوحاة من الميثاق الوطني، أي سياسة الانفتاح على العالم العربي، غير أن سياسة لبنان الخارجية في ظل السياسة الشمعونية، أخذت منذ العام 1954 تواجه تحديات على الصعيدين الاقليمي والدولي، خصوصاً في ظل سياسة الاحلاف التي أخذت تنهض في تلك الفترة، وأبرزها حلف بغداد في العام 1954، ثم مشروع ايزنهاور في العام 1957، فاختار شمعون الانضمام إلى هذين الحلفين مما شكل انقلابا على ميثاق 1943، وكان مقدمة لأزمة كبرى، خصوصاً مع إعلان شمعون رغبته في تجديد رئاسته، وخصوصاً مع ما شهدته انتخابات العام 1957 من تزوير واسع، بحيث يقول الوزير والنائب الراحل يوسف سالم: «أدرك اللبنانيون العقلاء والشخصيات المعتدلة خطورة الحالة وخطرها، وأيقنوا أن كميل شمعون لم يبعد عن المجلس النيابي أقطاب المعارضة والزعماء السياسيين إلا ليعمل على تجديد رئاسته في خريف العام 1958، كما أدركوا أنه إذا استمر اللبنانيون منقسمون هذا الانقسام الذي ينذر بشبه حرب أهلية تعرض لبنان إلى خطر فادح.

وعلى ذلك، حصل اجتماع في منزل يوسف سالم حضره بالاضافة إليه كل من: بيار الجميل، هنري فرعون، شارل الحلو، غسان التويني، الدكتور يوسف حتي، بهيج تقي الدين، جورج نقاش، محمد شقير، جان سكاف، غبريال المر، ونجيب صالحة، وقرر المجتمعون قيادة حوار بين جميع الأطراف والاتصال بأطراف السلطة والمعارضة، وأطلقوا على انفسهم اسم «القوة الثالثة»، غير ان بيار الجميل وشارل حلو، سرعان ما تركا هذه القوة من دون أن يحددا الاسباب».

بدأت هذه القوة اتصالاتها مع الاطراف المختلفة، وكان اللقاء الأول مع الرئيس شمعون حيث طلبت هذه القوى من شمعون إعلان عدم رغبته في التجديد في هذا الجو المشحون بالقلق، لكن شمعون رد بحدة قائلاً: «لا استطيع أن اعلن ذلك، لأنني إذا لم أجد في الميدان مرشحاً يستطيع أن يكمل السياسة التي سرت عليها، عند ذلك أرى نفسي مكرهاً على العمل للتجديد».

وهكذا افضى الحوار الذي ارادت القوة الثالثة أن تقوده إلى الفشل، فاندلعت أزمة العام 1958 التي انتهت بانتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، والذي كان اساسا من اختيار الزعيم العربي الراحل جمال عبد الناصر، ووافقت عليه الإدارة الأميركية التي عملت على تسويق ترشيحه من خلال مساعد الرئيس الأميركي دوايت ايزنهاور، روبرت مورفي الذي نصح شمعون بأن لا يفكر في تجديد ولايته، وعندما أعرب شمعون عن خيبة امله من اصدقائه الأميركيين، أجابه مورفي: لن نجعل الناس تعتقد أن الأسطول السادس جاء لخدمة شخص… أن اللواء شهاب هو أصلح المرشحين في هذه الفترة العصيبة التي يمر بها لبنان.. وهكذا كان.

اتفاق القاهرة

لو تسنى للبنانيين ان يراجعوا كل خطابات القسم لرؤساء الجمهورية المتعاقبين على البلاد منذ العام 1943، ومعظم البيانات الحكومية لنيل الثقة لتأكد لهم أن الحوار والتوافق والعيش المشترك كان السمة المشتركة بينها جميعها، مما يدل على أن هناك ازمات أو مشروع ازمة «وطنية» قد تطل في أي لحظة.

هكذا جاء عهد قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب عام 1958 فحاول أن يطلق أسس الدولة الحديثة التي نجح في وضع لبناتها حتى العام 1964 لكنها لم تتواصل مع عهد الرئيس شارل حلو الذي كان عهده قد بدأ يشهد تطورات اقليمية حادة أبرزها حرب 5 حزيران 1967، فبدأ صعود المقاومة الفلسطينية التي تنامى نفوذها ودورها بعد هزيمة حزيران، ثم كان الاعتداء الاسرائيلي الواسع على مطار بيروت الدولي عام 1968 وتدمير الأسطول الجوي لشركة طيران الشرق الاوسط الخطوط الجوية اللبنانية – الميدل ايست – فكان أن استقالت الحكومة الرباعية برئاسة الحاج حسين العويني لتخلفها حكومة جديدة برئاسة الرئيس الشهيد رشيد كرامي، إلا أنه في ربيع العام 1969 وعلى اثر صدام بين المقاومة الفلسطينية وقوى الأمن الداخلي اللبناني، وانطلاق تظاهرات 23 نيسان تحت شعار حماية المقاومة الفلسطينية، انقسمت البلاد وطنياً وطائفياً، واستقالت الحكومة الكرامية، فلم يشأ الرئيس شارل حلو قبول الاستقالة أو رفضها، لأنه أدرك أن البلاد على حافة الهاوية، وأن كل مناورة سياسية تقليدية من شأنها نقض الميثاق الوطني، مع ما يستتبع ذلك من أخطار.

استمرت الأزمة الوزارية نحو تسعة اشهر، شهدت البلاد خلالها مزيداً من الانقسامات بين اللبنانيين، ولم تفلح كل المحاولات لايجاد فرص للتلاقي وايجاد حلقة جديدة لتجديد الميثاق الوطني، وخصوصا أن الانقسام الذي بدأ يشق طريقه بين اللبنانيين، على قاعدة محاولة الاستفادة من الهزيمة التي لحقت بالعرب، وخصوصاً بجمال عبد الناصر في حرب 1967، والتي تجلت في ابرز صورها في بدء تكون احلاف طائفية، كان أبرزها الحلف الثلاثي الذي ضم ثلاثة اقطاب موارنة هم: كميل شمعون وحزب الوطنيين الاحرار، ريمون اده وحزب الكتلة الوطنية، وبيار الجميل وحزب الكتائب، فحقق هذا الحلف نجاحات بارزة في الانتخابات النيابية عام 1968.

المهم بعد الأزمة الوزارية المستفحلة منذ ربيع العام 1969، حيث ظل كل طرف متمسكاً برأيه، جاءت النصيحة الثمينة من الرئيس السابق فؤاد شهاب: «عليكم بجمال عبد الناصر للعثور على حل».

وعلى هذا، أوفدت الحكومة اللبنانية قائد الجيش العماد إميل بستاني إلى القاهرة ليجري حواراً مع رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بإشراف مصري، وبعد محادثات طويلة، نتج عن هذا الحوار الثنائي اتفاقية القاهرة التي بقيت نصوصها سرية، ووافق عليها مجلس النواب من دون أن يطلع على بنودها، مسجلاً بذلك سابقة غريبة على مستوى ممثلي الأمة والتشريع في لبنان.