بقلم أحمد الغز
لأول مرة في تاريخ البشرية يتحول فيها المطر الى إنجاز سياسي، وهذا يُحسَب للبنانيّين لأنّهم اصحاب هذا التطور الاستثنائي في علم السياسة الحديثة. حدث ذلك في ٣٠ تشرين الثاني يوم دخل لبنان تحت تأثير العاصفة بربارة التي حملت الأمطار والثلوج بعد شغور دام منذ شهر أيلول الموعد الطبيعي لهطول الامطار التي انتظرها اللبنانيّون طويلاً لأسباب مناخية وزراعية ومائية، لكنّهم عند هطولها حوّلوها الى امطار سياسية.
الحقيقة لا يُحسد عموم اللبنانيّين على واقعهم السياسي الراهن، والذي يصح فيه القول: «ما كل ما يُعلم يقال»، مما يضع الاعلام والسياسة في مأزق ابتكار موضوعات وأدوات تبعدهم عن قول الحقيقة او بعضها، لصعوبتها ومرارتها وسوء استخداماتها التي لا تليق بكل اللبنانيّين بدون استثناء، وخصوصاً أنّه يُحسب للبنانيّين أنّهم حتى في اكثر الظروف صعوبة وخطورة كان يوجد بينهم من يقول ما يجب أن يقال مهما كانت الاثمان.
الامر مختلف الآن فكل لبنانيّ يحاول ان يتكتّم عما يعرفه من كل الطوائف والتيارات والأحزاب، وحالهم اشبه بالذي يخفي عن أهله مرضه العضال، تاركاً لهم فسحة من الأمل والرجاء. كل اللبنانيّين وبدون استثناء الآن يعرفون حقيقة الداء المصابين به، والذي يحول دون عودتهم الى حياتهم الوطنية الطبيعية في ظل ظروف غير طبيعية تعيشها دول الجوار في سوريا والعراق والذي يتأثر بهما لبنان ومنذ عقود طوال مع احتمال كبير ان تنتقل عدواهما الى لبنان.
ليلة هطول المطر انفرجت أسارير الجميع وأصبحوا يتحدّثون بطلاقة غير معهودة عن اهمية الأمطار. وذهب البعض الى الدعاء أن تفرج سياسياً كما فرجت بالأمطار. وذهب البعض الآخر الى تفاصيل العاصفة ومدّتها وقوّتها وسرعة الرياح في الصباح والمساء وعن درجات الحرارة بين ساعة وأخرى، هذا بالاضافة الى تحديد مواعيد العواصف الأخرى حسب مواقع الأرصاد الجوية،كيومي الثلاثاء والسبت القادمين، مع الملاحظة أنهم جميعاً تجاهلوا الوضع السياسي والسجالات والتعثرات والشروط والشروط المضادة.
الجمل المفيدة الشائعة هذه الايام: «لا اعرف».. او «صعبة».. او «طويلة».. او «ما فينا نحكي».. او «ما فينا نكتب اللي منعرفوا».. او «خلينا ساكتين أحسن».. او «ما تصدق اللي عم تسمعو»..او «القصة خارجية ومش بالبلد».. او.. او..هذا ما يقوله السياسيّون والاعلاميّون في هذه الايام. وطبعاً هناك تعابير اخرى ايضاً أخجل من كتابتها، إمّا لسفاهتها او لحساسيّتها، اذ يعبّر البعض عن شعورهم بالمهانة او الخوف او الضياع، هذا بالاضافة الى الاستعارات الأمنية وإسقاطاتها على الواقع المشابه في ظروف سابقة. اننا نعيش حال من الهلوسة السياسية والهروب من الذات.
العاصفة بربارة وحّدت اللبنانيّين مناخيّاً، وأعادت دورة الحياة الوطنية من خلال متابعة الجميع لأخبار العاصفة لأنّها الشيء الحقيقي الوحيد، إذ أنّ وحدة الأوطان تقوم على الحقائق الدامغة وليس على هذا الكمّ من الأكاذيب والادعاءات. والسياسة هي كيفيّة التعامل مع الوقائع والمستجدّات من قضايا وموضوعات وتحديات. وبذلك تكون العاصفة بربارة هي الإنجاز الوطني الوحيد.