IMLebanon

العاصفة الحكومية من دون سقف

 

لا يمكن المرور على مقابلة أمير «جبهة النصرة» أبو محمد الجولاني على قناة «الجزيرة» الإخبارية على أساس أنّها حدث إعلاميّ بحت. ذلك أنّ ظهور زعيم تنظيم مصنّف ومُدرج على لائحة الارهاب لا بد أن يكون قد سَبقته إجراءات عدة تتضمَّن الحصول على موافقة السلطات القطرية، وخصوصاً الموافقة الاميركية، لا سيما بعد سلسلة الاتّهامات التي وجَّهها منذ مدة غير بعيدة مسؤولون أميركيون إلى نظرائهم القطريّين حيال دعم التنظيمات الإرهابية قبل تثبيت تفاهمات جديدة في هذا الإطار.

ما يعني أنّ السؤال الصحيح هو عن غاية واشنطن السماح بظهور الجولاني على إحدى أهمّ المحطات الاعلامية، وعن الرسائل التي أرادت توجيهها في هذا المضمار.

الجولاني وَضع لبنان في مرتبة متأخّرة من أولويّات تنظيمه، مركّزاً على دمشق كأولوية مطلقة. قبل ذلك وخلال الاشهر الماضية، كان مسار المعارك في سوريا يسجّل انعطافة وتبدلاً لصالح أعداء الرئيس السوري بشار الأسد وبمساعدة خارجية واضحة.

وكانت أبرز هذه المعارك وأكثرها خطورة، ثلاث:

– سيطرة «النصرة» على كل الفاصل الحدودي بين سوريا والأردن، وبالتالي قطع أيّ تواصل برّي ممكن بين النظام والعرش الهاشمي.

– بصرى الشام التي ساهم في سقوطها الدعم الأردني، والذي ما كان ليحصل لولا الرغبة الاميركية في ذلك، مع الإشارة الى أهميّة هذه المنطقة من الزاوية العسكرية.

– جسر الشغور، والذي أدّى النجاح في السيطرة عليه الى فتح طريق التهديد للاذقية، حيث المعقل الأساس والأهمّ للرئيس السوري، وباتَ من المعروف أنّ صواريخ «التاو» الاميركية التي أطلقت بغزارة كانت أحد أسباب نجاح الهجوم. ولم يصدر سؤال أميركي واحد عن طريقة حصول «النصرة» على هذه الكميات الوافرة من هذا السلاح النوعي، ما يؤشّر الى أنّ «السكوت علامة الرضى».

والى جانب هذه المعارك كانت هناك مواجهات أخرى في إدلب وغيرها، لكنّ «موقعة» جسر الشغور زعزعت معنويات أنصار الرئيس السوري للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب.

وهناك من يعتقد أنّ الأسد قرّر لعب الأوراق الخطرة، فطالما أنّ واشنطن نجحت في جمع السعودية وقطر وتركيا في جبهة واحدة في سوريا، وطالما أنّ الادارة الاميركية تحرّكت عبر الاردن في الجنوب السوري وقرب العاصمة دمشق، وطالما أنّ المسؤولين الأميركيّين المطمئنّين الى مسار مفاوضاتهم النووية مع ايران يَسعون لقلب موازين القوى العسكرية على الساحة السورية من خلال السماح بتزويد المجموعات المعارضة، وخصوصاً «النصرة»، بالسلاح النوعي القادر على قلب معطيات الميدان، فلتكن الأمور على قاعدة «اننا أيضاً قادرون على المَسّ بالخطوط الحمر الأميركية».

بداية، أرسلت دمشق وزير دفاعها الى طهران حيث التقى نظيره الايراني وسمع منه دعماً إيرانياً مطلقاً ترجَمه بشحنات جديدة من السلاح وبإرسال مجموعة من رجال النخبة في الجيش الإيراني تمركزت جنوب العاصمة السورية، في إشارة واضحة الى استعداد طهران للتدخّل المباشر في حال حصول تهديد جديّ لدمشق.

وبعدها، وقعت معركة تدمر «المُلتبسة»، ذلك أنّ التقارير الغربية أجمعت على أنّ الجيش السوري باشرَ في ترتيب انسحابه من هذه المنطقة المفتوحة في اتجاه حمص قبل أسبوع من حصول هجوم «داعش»، لا بل قيل إنّ أيّ معركة فعلية لم تحصل بعدما كانت تدمر عَصيّة على المهاجمين طيلة الأعوام الأربعة الماضية.

الأوساط الغربية المراقبة ترجّح أنّ النظام السوري أراد بهذه الخطوة فتح الطريق أمام «داعش» في اتجاه عكار اللبنانية عبر حمص، وهو التنظيم الساعي دائماً للتمركز في شمال لبنان. وهو ما يعني أنّ دمشق أرسلت جوابها على الرسائل الاميركية، خصوصاً أنّ واشنطن، ولأسباب تتعلّق بتوازنات الصراع في المنطقة، تريد الحفاظ على الاستقرار الامني في لبنان ولَو بحدّه الأدنى، اضافة الى الاستقرار الحكومي. ذلك أنّ الفوضى في لبنان، التي ستطاول الحدود الاسرائيلية في جانب منها، تُؤذي تَحكّم واشنطن بطريقة إدارة الصراع.

وتَروي الاوساط الديبلوماسية الغربية الرسالة التي كان بَعث بها الأسد الى واشنطن منذ أكثر من عامين، بأنّ إطلاق التيّارات المتطرفة ضدّه في سوريا سيُجبره على عقد تفاهم معها يؤدّي الى تركها تصول وتجول في مقابل عدم التعرّض للمناطق التي لا تزال تخضع للدولة السورية. يومها، أدّت الرسالة مراميها وبدأت الوفود الغربية تزور دمشق عبر لبنان، منها وفود ألمانية وحتى أميركية وفرنسية بدافع التنسيق الأمني.

المهم أنّ رسالة الجولاني حول تهديده دمشق قد تكون جاءت ردّاً على الزوايا المُلتبسة لاجتياح تدمر. في المقابل، حَضّت واشنطن السلطات اللبنانية والجيش اللبناني على البدء بوَضع الخطط الاحترازية المطلوبة للتعاطي مع أيّ وضع طارئ في عكار في حال نجحت «داعش» في اجتياز ممرّ حمص. وليس خطر الاهتزاز العسكري هو الوحيد الموضوع تحت مِجهر السفارات في هذه المرحلة، بل هناك الاهتزاز الحكومي الذي سيبدأ هذا الاسبوع.

فالتمديد للواء ابراهيم بصبوص كمدير عام لقوى الأمن الداخلي هو الخيار «المُحبّب» لوزير الداخلية نهاد المشنوق، والذي سيرى النور بعد فشل سيناريو التعيين في مجلس الوزراء بسبب فصل ملف قوى الامن الداخلي عن الجيش اللبناني، ومع ذلك سيبدأ مشوار التصعيد الحكومي.

داخل فريق تيار «المستقبل» مَن هو واثق بأنّ سقف العماد ميشال عون هو الاعتكاف الحكومي ولبضع جلسات قبل أن يعود الى الحكومة تحت وطأة حدث ما. لكنّ هناك فريقاً ثانياً يرى أنّ الاستعجال في «الخضوع» لمطالب عون الآن سيظهر وكأنّ قيادة الجيش هي حق مُكتسب، ما يعني توظيفها في معركته الرئاسية.

أمّا المماطلة حتى شهر أيلول فستكشف مدى «صلابة» عون ووزرائه في قرار المقاطعة، واذا ما استمرّ حتى أيلول، فيمكن عندها إنجاز المسألة لتصبح بمثابة «تسوية»، تُوظّف في إطار «التعويض». مع الاشارة الى أنّ الكثير من الفرقاء الإقليميّين ينتظرون توقيع الاتفاق الاميركي- الإيراني النهائي لفتح ملفات التفاوض والتسويات في المنطقة، بما فيها الملف اللبناني.

لكنّ الاوساط الديبلوماسية الغربية الحريصة على الاستقرار الحكومي تبدو قلقة من ولوج لعبة «عَضّ الأصابع» هذه على مسرح الحكومة، وهي تُبدي قلقها من إمكان اندفاع عون أكثر في اللعبة التي «لا سَقف لها» كما قال، أضِف الى ذلك أنّ «حزب الله»، ووفق منظار الصورة الاقليمية، لم يعد معترضاً على مبدأ إسقاط الحكومة، هذا إن لم يكن يميل الى حصول الاستقالة.

وكلام السيّد حسن نصرالله الأخير العالي السقف إنما كان موجّهاً الى العواصم الغربية التي تحاول كسر موازين القوى على الارض، ما يجعل اللعبة مفتوحة بالكامل.