IMLebanon

«عاصفة الحزم» هل هي أول الغيث؟

«السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب» (أبو تمام)

لو كان دخول الفرس في الإسلام مصدر سعادة وفخر لهم لكان شهر تشرين الثاني من سنة 635 ذكرى مجيدة، وهو يوم انتصر العرب في معركة القادسية على الفرس وبدأوا بنشر الإسلام على مدى خمس وعشرين سنة لاحقة في كل نواحي إيران.

ولو كان الاعتزاز حقيقياً لكان «سعد بن أبي وقاص» قائد جيوش العرب في المعركة بطلاً قومياً إيرانياً، ولكان «عمر بن الخطاب»، خليفة المسلمين في تلك الأيام، في أعلى درجات الإحترام.

لكن كل المصادر التاريخية والمراجع الأدبية في الشعر الفارسي أكدت احتقار الفرس وحقدهم على العرب، وأكدت الممارسات أيضاً أن كره الفرس للخليفة عمر بن الخطاب كان عظيماً حتى بعد إسلامهم، وقبل تشيعهم القسري مع الدولة الصفوية في أوائل القرن السادس عشر.

لقد أكد كل ذلك على أن الإنتماء القومي عند الفرس يفوق أي انتماء آخر، وليس هذا بغريب على امبراطورية وحضارة يعود تاريخها لسبعة وعشرين قرناً خلت، ويعتبرها البعض أولى الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ.

لقد كانت العقيدة «الزردشتية» الأداة الأهم لإنطلاقة الإمبراطورية الفارسية، وإحدى أدوات تماسكها، كما كان لرجال الدين دور كبير في إدارة السلطة «الشاهنشاهية».

أثناء الصراع بين الفرس والبيزنطيين ما بين القرن الرابع والسادس ميلادي، دأب الفرس على دعم المجموعات الدينية المناوئة لبيزنطيا، ومن ضمنها المسيحية غير الخلقيدونية واليهودية وأقليات دينية أخرى، ويذكر في هذا الإطار أحد ملوك اليمن وهو «ذو نواس يوسف أسار الحميري» الذي قام بإحراق أهل «نجران» المسيحيين لمصلحة الفرس لكي تبقى اليمن جزءاً من الإمبراطورية الفارسية.

العبث المذهبي الفارسي التالي كان يوم حوّل «اسماعيل شاه الصفوي» مؤسس الإمبراطورية الصفوية إيران بالقوة والإرهاب إلى المذهب الإثني عشري الشيعي، مع العلم أنه كان هو نفسه من سلالة اسماعيلية في الأساس.

لقد دخل مبدأ العبث بالعنصر المذهبي في قلب معادلة صمود الدولة الصفوية في مواجهة الإمبراطورية العثمانية على مدى قرنين من الزمن. 

تشير كل مصادر البحث الى أن معظم الشعائر التي فرقت بين السنة والشيعة ظهرت في تلك الحقبة، كما أن المبالغة في العداء للصحابة وفي ممارسة التقية المتمادية كانت دافعاً للكاتب والفيلسوف «علي شريعتي» الإيراني الشيعي الساعي إلى الوحدة الإسلامية، إلى وصف الشعائر التي ظهرت في العهد الصفوي بأبشع النعوت.

علي شريعتي الذي ألهمت كتاباته ونضالاته الملايين من الإيرانيين قتل قبل عودة الإمام الخميني سنة 9 الى إيران، وهناك من وجّه أصابع الإتهام إلى أتباع الخميني بارتكاب تلك الجريمة.

من الجانب العربي، وعلى الرغم من اعتداد العرب بأنسابهم القبلية، لكنهم لم يشعروا بوحدتهم القومية إلا بعد الإسلام، ولكن منطق الأمة بعدها تعدى النسب القومي إلى الإنتساب إلى «أمة الإسلام»، ويمكن القول إن الإمبراطورية العربية الإسلامية لم تدم لأكثر من مئة سنة، وانتهت عملياً بعد ذهاب الخلافة الأموية مع بداية دخول العناصر «الشعوبية» على مواقع الحكم في الخلافة العباسية.

الواقع هو أنه نادراً ما ظهرت اعتراضات عنيفة من العرب على حكم المسلمين من غير العرب، وذلك حتى نهاية الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى. ومع أن مصطلح «القومية العربية» ظهر في أواسط القرن العشرين مع «ميشال عفلق»، وأصبح جزءاً ملازماً للأدبيات السياسية بعد ذلك، لكن هذا المصطلح بقي حائراً بين العروبة والإسلام، ولم تتمكن فكرة القومية من العبور إلى وجدان العامة لتصبح جزءاً من عقلهم الباطن إلا في حالات نادرة ارتبطت بشخصيات كاريزمية، وانتهت بسرعة بعد غيابها عن الساحة العامة، وأبرز هذه الشخصيات كان جمال عبد الناصر الذي كان هو نفسه حائراً في بداياته ما بين مصرويته وإسلامويته وعروبته.

لماذا كل هذا الكلام الآن؟ 

لأن الوقت قد حان لتظهر الكيانات السياسية العربية القدرة على الدفاع عن النفس والاستعداد لوقف المد الإيراني المتمادي في كل الاتجاهات والذي لم يكن ليحصل لولا غياب العرب عن موقع الفعل الذي لا يمكن أن يحسب له حساب من دون القدرة على الرد بقوة على المعتدي. قد يكون من المبكر الآن التكهن بمسار الأمور بعد بداية معركة «عاصفة الحزم» وما نأمله هو أن يستكمل إنشاء القوة العربية المشتركة لإعادة وزن افتقده العرب ليس أمام إيران فقط ، بل حتى أمام التحديات الأمنية المحلية والإقليمية الأخرى.

من نافل القول إن تجربة إيران ليست الوحيدة في التاريخ، فقد تمكن حلم الإمبراطوريات من جمع شعوب كثيرة عبر التاريخ تحت لوائه، فتبعت زعماء أصبحوا أشبه بالآلهة. وكانت معظم الإمبراطوريات تسير تحت هدى عقائد تتحول إلى هويات قاتلة لشعوبها. فكانت الزردشتية ومن ثم الإثنا عشرية للفرس، وكانت المسيحية لقسطنطين الرومي واليهودية لبني إسرائيل، والإسلام لعدة امبراطوريات متعاقبة، والفلسفة الإغريقية للإسكندر المقدوني، والمسيحية مجدداً للحملات الصليبية، ومبادئ الثورة الفرنسية لحملات نابوليون، والنازية لهتلر، والديموقراطية لأميركا.

لكن الحقيقة الثابتة أن الشعوب التي اجتاحتها الإمبراطوريات كانت ضعيفة وفاقدة للقدرة على رد العدوان.

يقول المثل الشعبي «يا فرعون من فرعنك؟» فيرد فرعون «تفرعنت وما حدا ردني»!.

كسرى إيران اليوم «تفرعن» لأن العرب لم يردوه، فهل تكون عاصفة الحزم أول القطر؟.