كل الكلام الدائر حول أسباب المبادرة الرئاسية الحريرية وخلفياتها، منقوص الدقة أو حتى الصحة. فأهل المبادرة يعرفون تمام المعرفة أن لا بشار الأسد سيسقط بعد أسابيع، ولا سليمان فرنجيه من النوع الذي يتلوّن أو يتكيف، ولا حزب الله في حاجة إلى طمأنة من الفريق الأزرق إلى أن رأسه لن يقطع حين تصل الديمقراطية السعودية إلى دمشق فبيروت.
وأهل المبادرة نفسها يدركون أيما إدراك، أن لا اتفاق بين طهران والرياض على تسويات جزئية أو على تقاطع لبناني بينهما. فإيران أصلاً لا تتعاطى بالملف اللبناني إلا عبر شريكها العربي. والأزمات العالقة بين الطرفين ذاهبة إلى اعتلال مزمن. والدقائق القليلة على الواقف، بين ظريف والجبير في تلك القاعة النمساوية، لم تكن إلا لتبريد اشتباك الاجتماع السوري، إلا إذا كان أصحاب مبدأ «لبنان أولاً» يؤمنون بأن قضيتهم اللبنانية تلك، لا تحتاج إلا لثوان أجنبية من أجل تحقيق حلّها السيادي …
فيما الحقيقة الكامنة خلف المبادرة الرئاسية الحريري، تبدأ من لحظة أخرى، وإن من الأمكنة نفسها. وبالتدقيق، قد تكون نطفتها الأولى قد لقحت في 17 نيسان الماضي. يومها كان السيد حسن نصرالله قد انتهى لتوه من خطاب خصص القسم الأكبر منه للعدوان السعودي على اليمن. بعد لحظات قليلة، خرج سعد الحريري برد تغريدي اعتبر فيه أن نصرالله على خطى مرشد الثورة في ايران، «في الابداع في التلفيق وحياكة التحريف والتضليل وعروض الاستقواء»، متصدياً لرده المضاد، «من أكبر مقامٍ في طهران الى أصغرهم في الضاحية». قبل أن يختم الحريري تغريداته بالقول للسيد: «أخيراً، لماذا كل هذا الجنون في الكلام؟ انها عاصفة الحزم يا عزيزي»… من تلك اللحظة بدأت المأساة الزرقاء في بيروت. فالكلام الحريري لم يكن يومها انفعالاً، ولا رد فعل عفوياً أو هستيرياً غاضباً. ولا هو ابن ساعة تخل أو تجل. كان هذا الكلام جزءاً من حالة نفسية وذهنية وسلوكية كاملة، عاشها الفريق السعودي بعد انطلاق عاصفة الحزم في 25 آذار 2015. حالة يمكن تلخيصها بعبارة واحدة أطلقها يومها أحد الوزراء الزرق، من أن العملية السعودية العسكرية في اليمن، ستحسم المعركة خلال أسابيع معدودة. لتنتقل بعدها، عاصفة مماثلة، تصل سوريا مطلع أيلول، وتعلن دمشق «عاصمة محررة» قبل نهاية العام…
وجاءت نهاية العام. بعد مرور تسعة أشهر على انطلاق «العاصفة» هناك. ليبدو المشهد معكوساً بالكامل: اليمن مستنقع سعودي للموت الكثيف. يختصره استذكار الشروط الأربعة التي وضعتها الرياض يومها لإنهاء تورطها: مؤتمر حوار يمني في السعودية بالذات. بسط نظام هادي سلطته على كل اليمن. نزع سلاح الحوثيين. وضمان عدم تهديدهم نهائياً لأي دولة مجاورة! بعد تسعة أشهر على تلك المكابرة، ها هي الهرولة السعودية إلى مسقط، وسيطرة «داعش» على دويلة هادي، وتعزيز قدرات الحوثيين أضعافاً، وتوغل قواتهم عميقاً داخل الأراضي السعودية نفسها!
المشهد الميداني نفسه، كان يتوالى على الساحة الدبلوماسية. فمنذ انتخاب روحاني رئيساً للجمهورية في طهران في حزيران 2013، أعرب المسؤولون الإيرانيون عن رغبتهم في مد يد الانفتاح في اتجاه السعودية. صدرت تصاريح علنية عدة من جهتهم. قام وزير الخارجية الإيرانية بجولة خليجية، وأعلن جهاراً في الإعلام، أنه ينتظر موعداً سعودياً… ولم يأت الجواب. بعد مدة، جاء الرد مستكبراً مستعلياً، على لسان سعود الفيصل. لكن من دون موعد مع الملك، كما طلب الإيرانيون… حتى تلبّدت الأجواء. وبدأت المعارك بالواسطة في كل الخليج وكل المشرق. مر عامان ونيف، حتى وقعت كارثة منى في 24 أيلول الماضي. فخرج السيد خامنئي بكلام كبير. بعدها فتحت أبواب الرياض حتى للسفير الإيراني فيها. بينما لم يعد أي مسؤول إيراني أرفع يعرب عن رغبته في زيارة المملكة. فيما الغربيون يتهافتون على طهران. وفيما الطائرات الروسية تظلل سماء دمشق. بينما فلاديمير بوتين يهدي خامنئي نفسه أقدم نسخة روسية للمصحف، تقول التأريخات إنها تحمل آثاراً من دم الخليفة الراشد الثالث، عثمان بن عفان … كل ذلك، فيما صندوق النقد الدولي يهدر دم الصناديق السيادية الخليجية، وتعلن مديرته الفرنسية كريستين لاغارد أن عواصم الخليج مقبلة على سنوات خمس عجاف جداً…
من هذا المشهد ولدت مبادرة الحريري الرئاسية. فهي بنت هذا السياق، وبنت موازين القوى هذه لا غير. وبنت مناورة إعطاء رئيس، مقابل أخذ جمهورية، في لحظة خسارة كل شيء. معادلة لم يرضخ لها سليمان فرنجيه في باريس. ولا يقبلها هو ولا حلفاؤه في بيروت. ولا يطرحون رداً عليها إلا التسوية الميثاقية الفعلية الكاملة. تسوية أساسها الشراكة الحقيقية. فلا ينتقص من حق الحريري ذرة، ولا تغبن فيها شعرة واحدة من شراكة الطائفة السنية الكريمة. تسوية تبدأ بالاعتراف والإدراك، ان غازي كنعان مات. وماتت معه كل الوصايات، بعدما دفعتنا جميعاً دماء ثمينة، قد تكون أغلاها دماء رفيق الحريري… ليست أصواتنا ولا أقلامنا ولا شاشاتنا من عطّل الأطماع. كما يحلو لبعض الحاقدين أن يبرروا. بل هي الأطماع نفسها قد سقطت بفعل حريتنا من قبل، وستسقطها ميثاقية البلد كل يوم.