تتزايد المخاوف الأميركية حيال المنحى الذي تسلكه الأحداث في لبنان. لذلك جالَ السفير الأميركي ديفيد هيل على بعض القيادات محاوِلاً التماسَ صورةٍ أوضَح في حال اندفاع الأمور في اتّجاهات غير محسوبة.
خلال هذه اللقاءات التي تنوَّعت بين مسؤولي صفّ أوّل وثانٍ، وشَملت مختلف الاصطفافات، أبدى السفير الأميركي قَلقه من التشنّجات التي ظهرَت على الساحة اللبنانية والتي لا تزال قابلةً للضبط ولو بصعوبة في المرحلة الحاليّة، لكنّ استمرارها سيَعني ازديادَ الغيوم الداكنة في سماء لبنان واكتمال متطلّبات انفجار العاصفة في شهر أيلول المقبل حيث يصبح ضبط الساحة صعباً جدّاً.
ومبعثُ قلق السفير الأميركي ينطلق من الملفَّين اللذين عَطّلا العمل الحكومي، وهُما عرسال والتعيينات الأمنية. ولم يعُد سرّاً أنّ الأولوية التي تتوخّاها واشنطن ومعها باريس من لبنان في هذه المرحلة تتلخّص بنقطتين: الاستقرار الأمني وحماية الحكومة.
السفير الأميركي أبدى استياءَ بلاده من السلوك المتهوّر للمسؤولين اللبنانيين مِن كلا الطرَفين، ذلك أنّ سياسة التحَدّي السائدة لا يمكن إلّا أن تؤدّي الى الانفجار في شهر أيلول المقبل، وهو المحطّة التي تحتضن استحقاقات مفصلية عدّة.
لذلك مثَلاً تبرّعَت باريس بإرسال رئيس دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في وزارة الخارجية فرنسوا جيرو إلى بيروت وعقد الاجتماع الإقليمي لسفَرائها بهدف توجيه رسالة لجهةِ حِرصها على الاتفاق المعقود بينها وبين إيران من خلال جيرو نفسه والذي يتلخّص بنقطتين: الأولى حماية الحكومة والثانية تأكيد الاستقرار الأمني الداخلي.
ويستعدّ جيرو لجولةٍ جديدة ستُخَصّص بالكامل لهذا الموضوع الشهر المقبل، خصوصاً بعد توقيع الاتفاق النهائي بين واشنطن وطهران، ما سيَفتح في رأي باريس إمكانات التفاوض السياسي حول لبنان بشكل أكثر جدّية.
وسيُحاول المسؤول الفرنسي التمهيد لزيارته المقبلة إلى لبنان بإجراء جولة محادثات جديدة مع المسؤولين الإيرانيين لاعتقاده أنّ طهران ستكون قد بدأت مرحلة إقليمية جديدة.
في كلّ الأحوال فإنّ واشنطن وباريس لا تفهَمان السبب في دفع الأمور إلى هذا المستوى من الصراع السياسي حول جرود عرسال، والسؤال الذي تكرّر طرحُه: أليسَت كلّ الفئات اللبنانية ضدّ هذه المجموعات الإرهابية؟ لماذا إذاً هذا الضجيج السياسي؟ واشنطن كانت قد زوّدت الجيشَ اللبناني بعشرات المدافع من عيار 155 ملم والمخصّصة لقصفِ الجرود والجبال، إضافةً إلى أعداد كبيرة ووافرة من القذائف.
ذلك أنّ القيادة العسكرية الأميركية الحريصة كلّ الحِرص على الجيش اللبناني ووحدتِه وقوّتِه كانت تتحسّب هي أيضاً لمعارك جرود عرسال، «فلماذا يتلكّأ مجلس الوزراء في تأمين الغطاء السياسي المطلوب؟».
في المقابل، تحدّثَ بعضُ المحسوبين على تيار «المستقبل» عن هواجسهم من «حزب الله» الذي يريد تنفيذَ تغييرات «ديموغرافية» شمال البقاع تماشياً مع الخريطة السوريّة الجديدة الحاصلة، وعلى أساس استغلال الانفجار الأمني لدفع الصراع إلى داخل بلدة عرسال وتهجير أهلِها. وقد يكون أحد أهداف الإطلالة الأخيرة للأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله توضيح هذه النقطة.
وتبدو الأوساط الديبلوماسية الأميركية على عِلم بالتنسيق الذي يُجريه الجيش اللبناني مع مختلف القوى في عرسال، وهي راضية عنه لإدراكِها استحالة السيطرة على الوضع من دون الأخذ في الاعتبار الوقائع الميدانية.
لكنّ أسئلة «المستقبل» طاوَلت مصيرَ مخيّمات النازحين السوريين، والأهمّ وجهة مسلّحي «النصرة» و»داعش» بعد جرود عرسال، وما إذا كانت المعارك ستدفَع بهؤلاء إلى حمص أم إلى عرسال والعمق البقاعي، كون تطويقهم للقضاء عليهم بشكلٍ كامل مسألة غير واقعية.
وقيل إنّ مسؤولاً في تيار «المستقبل» ارتبكَ حين سُئل: وماذا تفعلون حول طاولة الحوار؟ ألم تتداوَلوا في هذه الأمور مثلاً وتحاولوا التنسيقَ مع الجيش؟
أضِف إلى ذلك القلق الموجود نتيجة ما يَجري التداول به في شأن إمكانية تسَرّب بعض مجموعات «داعش» إلى منطقة عكّار لزَرع الفوضى في الشمال وسط بيئة قد تكون متعاطفة، وإنْ لم تكن حاضنة.
وتتابع العواصم الغربية ارتفاعَ منسوب الحذَر خصوصاً في المناطق المسيحية الشمالية، حيث باشَر الجيش اللبناني وضعَ الخطط الاستباقية المطلوبة في موازاة تحَسُّب أمنيّ يُشرف عليه خصوصاً رئيس تيار «المرَدة» النائب سليمان فرنجية.
أمّا على محور الحكومة، فالمسألة تبدو أكثر خطورةً بسبَب تجميد ملفّ التعيينات، فيما يَلوم هيل مختلفَ الأطراف. فالسفير الأميركي مقتنع بأنّ العماد عون جدّي فيما هو ذاهبٌ إليه، وبأنّ «حزب الله» سيَسير معه أيّاً يكن خياره بعيداً.
ذلك أنّ بعض المحسوبين على «صقور المستقبل» تحَدّثوا عن أنّ أفقَ «مشاكسة» عون محدود ومحكوم بالتلاشي، وأنّ عون نفسَه يدرك ذلك، وهو ينفّذ مناورةً أكثرَ منه خطّة سياسية جدّية، وسيعود عن خطوتِه خلال أسابيع معدودة.
لكنّ الديبلوماسيين الغربيين القلِقين على الجيش ومعنوياته لا يُجارون هؤلاء تقويمَهم «البسيط» لِما هو حاصل. وجاءَت «نصيحة» نصرالله حول ضرورة التعاطي مع مطالب عون الحكومية بالجدّية، لتعزّز رأيَهم.
المصادر الديبلوماسية لمسَت أنّ هناك ما هو أبعد من العناوين المطروحة حول التعيينات الأمنية، أي نقاط مستورة ولكن متداخلة بالعمق مع الاستحقاق الرئاسي، وهو ما يَجعل بداية شهر أيلول موعداً لانفجار سياسيّ كبير.
إضافةً إلى أنّ مسؤولين كباراً في «حزب الله» ردّدوا كثيراً في الآونة الأخيرة أنّ الظروف الإقليمية التي حتّمَت ولادةَ الحكومة والتوافق حولها منذ أكثر من عام قد تبَدّلت، ما يَعني ضمناً أنّ التزام بقائها لم يعُد قائماً إلّا وفقَ شروط جديدة.
أضِف إلى ذلك أنّ عون شعَر بأنّه أصبَح أكثرَ ارتياحاً على المستوى المسيحي بعد مصالحتِه مع الدكتور سمير جعجع الذي وَجّه ضربةً سياسية لتيار «المستقبل» في عزّ حشرتِه مُعلِناً «استقالتَه» من دورِه كمشاكِس على عون.
ولم يَستطِع أعضاء «اللقاء التشاوري» مَلءَ فراغ جعجع على رغم اندفاعِهم في هذا الاتّجاه، تماماً كما حصل عند طرح مشروع قانون اللقاء الأرثوذكسي. لا نزال بحاجة لبضعةِ أسابيع لتبيان جدّية مسار عون وأفُقَه بالنسبة إلى البعض لترتيب الصورة قبل عواصِف أيلول.