لم يُفاجأ المراقبون المتابعون لدقائق الموقف الروسي من أزمة سوريا بإعلان الرئيس فلاديمير بوتين دخوله ميدانياً الى الحرب السورية. فخلال الأشهر الثلاثة الماضية، كان الكرملين يُحاول بناء شراكة مع السعودية ضدّ الارهاب في سوريا والمنطقة، وأيضاً بناء منظومة تبادل حماية أدوار في المنطقة بين موسكو والرياض في وجه إمكانيّة أن تتفرَّد طهران وواشنطن بالنفوذ في الشرق الاوسط كترجمة لنتائج تفاهمهما النووي. لكنّ مجمل هذا المسار اصطدَم بالجوّ غير الودّي الذي ساد زيارة وزير الخارجية السعودي عادل الجبير الأخيرة الى روسيا، حيث أعلنا عودة افتراقهما في مقاربتهما للازمة السورية.
بعد ذلك أخذت موسكو تراقب عن كثب تطوّرات الموقف الدولي من الأزمة السورية، وتحديداً انطلاقاً من ثلاثة تطوّرات وجدت فيها مخاطر تُمهّد لانقلاب دولي وإقليمي في سوريا يتم من وراء ظهرها وعلى غفلة منها.
وهذه التطوّرات الثلاثة هي المسؤولة عن تسريع بوتين تنفيذ فكرة تدخله العسكري في سوريا، وعدم الانتظار لإنضاج هذا الامر أكثر على المستوى الديبلوماسي إقليمياً ودولياً:
• التطوّر الأول أخذ تعبيره من خلال تصريح مقتضب لوزير الخارجية الاميركي جون كيري بدايات الشهر الماضي، وعقب زيارة الجبير غير الناجحة إلى موسكو. جاء فيه أنّ واشنطن تؤيّد إنشاء قوة عربيّة مشتركة لمحاربة الارهاب الداعشي في سوريا.
اعتبرت روسيا وفق كواليس على صلة بها، أنّ هذا التصريح غير مفهوم ويُثير في الوقت عينه الكثير من الريبة: غير مفهوم لأنّه يتناقض مع واقع الحال العربي المتّسم بأنّ دوله منشغلة بحروب داخلية وبينيّة؛ فمصر منشغلة بحرب أمنيّة وعسكرية واسعة ضدّ الارهاب الذي يضربها منذ سقوط حكم الاخوان المسلمين فيها.
والسعودية مستهلكة في حرب اليمن، ومعها الإمارات العربية المتحدة. والجزائر ليست في وارد أن تكون ضمن قوة عربية ضدّ الارهاب في سوريا ليس فيها جيش الاسد. فعَن أيّ قوة عربية يتكلّم كيري؟!
أما سبب ريبة موسكو من تصريح كيري، فيعود إلى كونها شعرت أنّ غايته الاساسية هي قطع الطريق على فكرة بوتين إقامة حلف اقليمي ودولي يضمّ الرئيس بشار الأسد ضدّ «داعش» وشقيقاتها في سوريا، وذلك لمصلحة انشاء حلف عسكري تكون واجهته عربية فيما مادّته العملية تركية واميركية وفرنسية.
ضمن هذا السياق نفسه، كان لافتاً من منظار موسكو تصريح الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند خلال الشهر الماضي بأنّ باريس تعتزم توسيع غاراتها الجوية في العراق لتشمل مواقع «داعش» في سوريا. وقبلاً كان لافتاً تخلّي أنقرة المفاجئ عن حظرها بأن تستخدم الطائرات الاميركية المغيرة على «داعش» في سوريا، قاعدتها أنجيرليك الجوية.
جملة هذه المستجدات وضعت بوتين في سباق مع الوقت لجهة مَن يسبق مَن الى ميدان سوريا: مشروع القوة العربية ضدّ «داعش» في سوريا، أم مشروعه في شأن أن تقود روسيا إنشاء قوة دولية بداخلها الجيش السوري والنظام؟
وواضح أنّ بوتين حسم الإجابة عن السؤال الآنف عندما قرّر النزول عسكرياً الى الميدان السوري. ويعتقد الروس أنهم بخطوتهم قطعوا الطريق على تحضيرات دولية كانت تجرى لإفشال فكرة بوتين واستبدالها بفكرة مغايرة لها واجهتها عربية ومادتها الصلبة اميركية وأوروبية (فرنسا) وإقليمية (تركيا).
المنطقة الآمنة
• التطور الثاني يقع في أنّ موسكو أخذت تنظر في الآونة الاخيرة بجدّية إلى احتمال أن تُنشئ تركيا بالتواطؤ مع واشنطن منطقة آمنة في شمال سوريا، وذلك تحت عنوان أنّ تجميع النازحين السوريين في هذه المنطقة يؤمّن حلّاً لقضيتهم داخل سوريا، ما يُنهي ملابساتها التي باتت تشكل قضية اخلاقية عالمية، ومصدر زعزعة للاستقرار، فيصل جوار سوريا وأوروبا.
وتعاملت موسكو مع هذا النوع من المعلومات بكثير من الجدّية، وتوجّست من أنّ قيام المنطقة الآمنة المحظورة جواً وبراً في وجه أيّ عمل عسكري سوري، ستستغلّه «داعش» والمنظمات الارهابية للتسرب اليها والاحتماء بها، وحينها سيصبح من الصعب على موسكو التدخّل عسكرياً لاجتثاث هذه الجماعات المتطرفة ومن بينها خيرة مقاتلي الشيشان والقوقاز؛ لأنّ تدخلها حينها سيعني اصطدامها بمنطقة محمية دولياً في سوريا.
لقد مثل التطوّر الآنف عاملاً حفّز لبوتين على الانتقال لتبنّي مقاربة عسكرية روسية مباشرة في سوريا. لكن هذه النقلة في تفكيره حصلت على مرحلتين؛ الاولى عبر قراره القفز على تعهّد كان قدّمه إلى شركائه الدوليين بعدم تقديم سلاح كاسر إلى النظام السوري، حيث أمر وعلى نحو مفاجئ بتزويد سوريا بست طائرات «ميغ ٣١»، مخصّصة للاعتراض الجوي وقادرة على حرمان أنقرة من السيطرة على فضاء المنطقة العازلة التي تنوي إنشاءها في سوريا.
وتضمّنت صفقة الطائرات الست رسالة روسية واضحة لتركيا، تفيد بأنّ موسكو عازمة عسكرياً على إحباط أيّ محاولة منها لإنشاء منطقة الحظر الجوي. والمرحلة الثانية جاءت لتتجاوز سياسة الرسائل لمصلحة نزول موسكو بثقل عسكري مباشر الى الميدان السوري انطلاقاً من ساحله حيث هناك اعتراف دولي بمصالح روسيا فيه.
وبحسب ما تنقله شخصية لبنانية التقت وزير خارجية تركيا قبيل النزول الروسي العسكري إلى الميدان السوري، فإنّ أنقرة كانت لا تزال على ثوابتها المتشدِّدة في شأن الأزمة السورية، وأهمّها أنّ «لها في سوريا ثلاثة أعداء هم «داعش» وحزب العمال الكردستاني وبشار الاسد».
أضف الى أنها عازمة على إنشاء منطقة الحظر الجوّي لاستيعاب النازحين السوريين الذين باتوا مصدر خطر على أمن جوار سوريا وأوروبا، وذلك سيحدث بعد الانتخابات العامة التركية.
على أنّ تعديلات طرأت على تصريحات أنقرة بعد النزول العسكري في سوريا، خصوصاً لجهة اعلان أوغلو أنّه يقبل ببقاء عدوّه، الاسد، حتى انتهاء الفترة الانتقالية، مصحوباً بتصريح من البيت الأبيض قال إنّ واشنطن لا تزال ترى عدم ضرورة إنشاء المنطقة الآمنة في سوريا.
• التطوّر الثالث يتمثل بتقدير موقف روسي يفيد عن إمكانية تعرّض الجيش السوري لمزيد من التفكك البنيوي في حال ظلّ ميزان القوى العسكري على حاله لمدة أطول.
ويفيد تقدير موقف موسكو بأنّ خسائر الجيش السوري بين قواته المشاركة في القتال بلغت 140 ألفاً، ولم يبقَ منها إلّا الربع في الميدان. في حين أنّ وحدات الجيش السوري التي لم تنشق عن النظام لكنها محيدة من القتال وتتشكل كلّها من جنود وضباط سنّة، لا تزال سليمة في ثكناتها وتُمثّل نصف الجيش السوري، وتمتاز بأنها غير ملوّثة بالدم من جهة أو بأيّ ميول تجاه المنظمات الارهابية من جهة ثانية.
وهذه الوحدات تشكل من وجهة نظر موسكو العامود الفقري الذي سيتمّ بالاعتماد عليه، منع فرط الجيش السوري وإعادة هيكلته، والاعتماد عليه ليكون ممثل استمرار النظام واستمرار الدولة السورية خلال العملية الانتقالية واستعادة الاستقرار.
بين موسكو وواشنطن
بعيداً من أجواء موسكو، وتحديداً داخل الأجواء المحسوبة على محور باريس والرياض وأنقرة، هناك نوع من الاقتناع بأنّ الدخول العسكري الروسي الى سوريا، تمّ في مناخ توافق اميركي – روسي على بعض مبادئه، أوّلها الاعتراف بدور موسكو مقابل الدور الايراني في سوريا، مع تأكيد هذه المصادر أنّه حتى هذه اللحظة لا يوجد أيّ افتراق جوهري بخصوص الازمة السورية بين القيادتين الروسية والايرانية.
لكنّ هناك افتراقات مرشحة لأن تظهر لاحقاً، ويمكن تلخيصها بالتباين القائم حول أولويات الطرفين في نظرتهما لمستقبل سوريا؛ حيث «يهمّ بوتين بقاء النظام السوري أكثر مما يهمه بقاء الاسد»؛ فيما «طهران يهمّها بقاء الاسد أكثر ممّا يهمّها مستقبل النظام السوري». لكن حتى اللحظة فإنّ الطرفين ملتقيان على فكرة مواجهة نظرية الرياض وواشنطن للحلّ في سوريا التي تتبنّى مبدأ رحيل الاسد الآن، وأنّ الحلّ يبدأ برحيله.
ومع ذلك فإنه داخل ثنايا تواقفهما، هناك ظلال تباين حيال الموضوع ذاته، إذ تتحدث روسيا عن بقاء الاسد لفترة انتقالية، ومن ثمّ يقرّر الشعب السوري مصيره عبر انتخاباتٍ حرة، لكنّ طهران كما الاسد، يرفضان فكرة تضمين الحلّ، مرحلة انتقالية، ويطرحان مرحلة متصلة للحلّ مع الاسد.
من جهتها الرياض، لا تزال تحافظ على خيط صلة تواصل مع موسكو حيال ازمات المنطقة، وإن بوتيرة أخفّ من تلك التي كانت قائمة خلال الصيف الماضي.
لقد عدلت الرياض من مستوى تعاطيها مع بوتين ولافروف، وذلك بعد سلسلة اجتماعات حصلت في مسقط العمانية الشهر الماضي، واتفق خلالها الخليجيون بمباركة الرياض على التفاوض مع روسيا حيال أزمات المنطقة انطلاقاً من كونهم كتلة واحدة: أيْ مجلس التعاون بمجمله في مقابل روسيا. وبدأت أخيراً الوفود الخليجية تذهب بهذه الصفة الى موسكو.
ذهب بداية الامارتيون، ومن ثمّ حُدّد موعد للكويتي؛ لكنّ بوتين قطع هذا المسار من خلال اتصال هاتفي أجراه بعد نزول قواته في سوريا بالملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وعلى اثره تقرّر تثبيت موعد زيارة محدَّدة مسبقاً للأخير الى الكرملين لتعود بذلك مفاوضات الطرفين الى مربعها الاول: الرياض وموسكو وجهاً لوجه.
ووفق ديبلوماسي خليجي، فإنّ بوتين سيسمع من الملك سلمان المقاربة ذاتها التي اتفق عليها الخليجيون في مداولاتهم البعيدة من الاضواء في مسقط؛ وقوامها أنّ الرياض ومعها أشقاؤها الخليجيون يتفهمون توجّس موسكو من الارهاب التكفيري السنّي المستوطن في سوريا والذي يضمّ بين صفوفه مواطنين روس وشيسان وقوقاز، لكنها في المقابل تصرّ على منطق أنّه لا يوجد ارهاب واحد في سوريا بل ارهابيّان: «داعش» والاسد.
أضف الى أنّ الارهاب السنّي يضرب أيضاً دول الخليج والسنّة العرب وعليه تعتبر هذه الدول نفسها شريكة في التصدي مع روسيا لهذا الارهاب في سوريا ولكن من دون الاسد، بل مع حكومة ورئيس جديد اشرس من الاسد في قتال الارهاب، ولكنه مقبول من الشعب السوري على عكس الاسد.