لعبة سياسية أوقفت الحل السياسي الشامل
قصة أزمة عرقلت قيام الحكومة الجديدة
واتفاق الطائف يستعيد وهجه بعد خموده
كان رئيس الجمهورية الراحل الفريد نقاش يقول دائماً في مجالسه الخاصة، ان السياسة في لبنان، تعتبر اعجوبة العصر لما تتميز به من مواقف غير تقليدية، ولما يُجسد السياسيون فيه من مفاجآت، لا تكون في احيان كثيرة تخطر في بال أحد.
وفي أكثر تعابيره، عبر الرئيس نقاش عن ذهوله للصداقة والعداوة عند الرئيسين الراحلين بشارة الخوري واميل اده، فراح يشدد على ان السياسة في لبنان، لا صداقة دائمة فيها ولا عداوة ثابتة، وهذا ما يجعل لبنان الوطن الصغير، البلد الكبير في التنوع السياسي، وهذه ظاهرة لا تتوافر في البلدان ذات الانماط الغريبة في السياسة.
والرئيس الفريد نقاش الذي عاصر الإنتداب الفرنسي والوجود البريطاني، جدد ايمانه الراسخ بقدرة البلد الصغير، على ما لا يقوى عليه بلد كبير.
ويروى انه في أحد الأيام، سأل رئيس الوزراء السابق سعدي المنلا، عما إذا كان يجد في ملاحظاته عيوباً سياسية، رد بأن التنوع السياسي مصدر غنى لأي بلد، وبادره بان مدينة طرابلس، وهي مدينة عاش فيها طويلاً الرئيس سعدي المنلا، ظلت، على رغم الخلافات بين عائلاتها العريقة، عنواناً للحذاقة السياسية، والتنوع السياسي.
وأردف الرئيس الفرد نقاش بان غياب التنوع يعني غياب البلد عن الوجود المتميز بالحركة والحرية والارادة الشخصية، وهذه هي صفات شجاعة في اطلاق الافكار والآراء، وعدم الوقوع في مواقف غير دقيقة أو سليمة، في العرف السياسي.
والرئيس نقاش يتميز بمواقفه السياسية طوال فترة عمله السياسي، الخارجة على التقليد القائم، وان لم يكن في مواقفه رائداً للتجديد، وعدم الخضوع لسلطة الانتداب الفرنسي او الاستثمار الفرنسي، وان ظل يحتفظ في عمله السياسي وللعالم بالرزانة والصبر.
ما هي قصة الازمة التي حالت دون تأليف الحكومة الجديدة برئاسة الرئيس سعد الحريري وما هي الاسباب غير المعلنة، التي بقيت سراً من الاسرار في بطون أهل السياسة.
تجيب الأوساط القريبة من أهل المسؤولين، ان الرئيس الجديد للجمهورية العماد ميشال عون لم يكن مرتاحاً، أو راضياً على تكريس وجود ثلاثة رؤساء في السلطة، لان في البلاد، وفق القانون وحسب الدستور رئيساً واحداً للدولة لا ثلاثة رؤساء، وان هناك عُرْفا جرى تكريسه في عصر الوصاية السورية، يقوم على وجود ثلاثة رؤساء، هم رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، وهذا ما جرى تكريسه بعد تكليف السلطة السورية، بعيد الطائف في رعاية وثيقة الوفاق الوطني والسهر على تنفيذ الطائف نفسه.
وتضيف بان الوصاية السورية عمدت الى تغذية الخلافات فيما بينهم لتتولى بدورها مصالحتهم، وهذه الأمور بدأت في الظهور، عندما كان الرئيس الياس الهراوي مقيماً في المقر الرئاسي المؤقت الذي استضافه فيه الرئيس الشهيد رفيق الحريري، عندما كان الرؤساء الثلاثة في السلطة وهم رئيس مجلس النواب حسين الحسيني والرئيس سليم الحص، في اثناء وجود الرئيس رينه معوض، لوقت قصير قبل استشهاده والرئيس الهراوي بعد خلافته فوراً.
الا ان الرئيس الحريري، عندما تسلم رئاسة الحكومة اراد الحصول على صلاحيات استثنائية لحكومته، من دون موافقة مسبقة من المجلس النيابي، الأمر الذي عارضه الرئيس الهراوي، ووقف الى جانبه نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام، مؤيداً بقوة من الرئيس السوري حافظ الاسد.
وهذه المناكفات تجلت بقوة، لدى التمديد نصف ولاية للرئيسين الهراوي والعماد اميل لحود، والأخير كان له ما يريد في القرار السياسي ضد الرئيس رفيق الحريري، الى حد ان العميد السوري الراحل طلب صراحة من الرئيس رفيق الحريري ان يتخلى عن مستشاره الإعلامي والسياسي نهاد المشنوق، وفي أمور كثيرة كان الرئيس الحريري ينصاع في مجلس الوزراء، عندما كان الخلاف ينشأ بينه وبين نائبه السيد عصام فارس الذي كان يتمتع بدعم رئيس الجمهورية، وكانت تسند اليه رئاسة معظم اللجان الوزارية، لان الرجل كان اشبه بالرئيس الثاني للسلطة الثالثة باعتبار ان مكاتبه في بناية الصوفيل في الاشرفية تضم مستشارين يعملون على نفقته، ويتمتعون بالخبرة والثقافة في معظم الشؤون العامة.
صحيح، ان الرئيس رفيق الحريري كان في هذه اثناء يقوم باصلاح وترميم السراي التي ضمت لاحقاً مقر رئاسة الحكومة، كما كان الامر سابقاً، الا انه لم يحظ بسلطات استثنائية لأي من حكوماته المتتابعة.
وعندما استشهد الرئيس الحريري في العام ٢٠٠٥، وفي اوج الاضطهاد السياسي الذي تعرض له، من خلال العمل على تجريده من قوته السياسية وزعامته المشهود لها على الطائفة الإسلامية السنية، بعد ان دانت له زعامة مسيحية واسعة في بيروت وطرابلس وصيدا، في غياب الرئيس عصام فارس عن لبنان استنكاراً لاعتماد القانون الانساني المعمول به في العام ١٩٦٠ والمعدّل لاحقاً في الدوحة، كانت بيروت ومعها دول عربية جديدة، تجد في الرئيس الشهيد سعد الحريري رجل كل المراحل، حتى انه عندما أصبح فيما بعد الرئيس المرحوم عمر كرامي رئيساً لمجلس الوزراء، وزار المملكة العربية السعودية وعدداً من دول الخليج، كان طيف الرئيس الحريري يلاحقه من عاصمة الى عاصمة.
ويذكر اللبنانيون، ان الرئيس رفيق الحريري استشهد، بعد حضوره جلسة نيابية هدفها تفعيل دوائر انتخابية تمهد لإضعاف زعامته في بيروت وسواها، وساعة تلقف سكان العاصمة خبر اغتيال الحريري، كان رئيس الحكومة السابق الدكتور سليم الحص في مستشفى الجامعة الأميركية، مع عواده وفي مقدمتهم صديقه الوزير عصام نعمان.
رحل رفيق الحريري شهيداً، واعطى لبنان زعامته في بيروت وطرابلس وصيدا لنجله الرئيس سعد الحريري.
المؤامرة تتكرر
صحيح، ان معارضي الرئيس سعد الحريري استطاعوا الانقلاب عليه، وهو على ابواب البيت الابيض، وجيء بالرئيس نجيب ميقاتي الزعيم الطرابلسي الى السراي الا انه يعود الآن بقوة الى الموقع الذي احتله والده، سنوات طويلة.
والصحيح ايضاً ان عهداً جديداً يظهر الان في لبنان، يمثله الرئيس الجديد للجمهورية العماد ميشال عون، مؤيداً من الرئيس سعد الحريري الذي خالفه بادئ الامر، وايد سابقاً الوزير السابق النائب سليمان فرنجيه، لكن حرب الثنائيات الطائفية تطفو على بحر السياسة في البلاد.
ذلك ان الرئيس العماد ميشال عون، واجه معارضيه الأوراق البيضاء وحظي بتمسك حزب الله به في معظم اللحظات.
وجرى ترشيح الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة الجديدة في العهد الجديد، باكثرية ١١٢ صوتاً وفق الأسس الآتية:
اولاً: يتعهد الرئيس نبيه بري، بتسهيل وصول العماد ميشال عون الى رئاسة الجمهورية، وقد تجلى ذلك في الجلسة الإنتخابية، حيث ساعد الرئيس المنتخب على التقيد بالأصول البرلمانية.
ثانياً: يعطى الرئيس بري من قبل حزب الله الحرية بعد ذلك في ترتيب أمور الحكم ولذلك، فقد أيد بقوة ولا يزال، طلب النائب سليمان فرنجيه باعتماد اوراق بيض في الاقتراع الرئاسي ويساند الآن ترشيح الرئيس سعد الحريري للرئاسة الثالثة، ويساند ايضاً الإتفاق مع النائب فرنجيه على التخلي عن حقيبة وزارة الأشغال الحافظة للعيش الواحد.
بالاضافة الى اعتماد صيغة قانون نيابي انتخابي قد يكون طريقاً الى حل مقبول من الجميع، على أساس اعتماد قانون مختلط يجمع بين النظامين الاكثري والنسبي.
الى ذلك يبدو ان الرئيس عون يمارس دوره حتى الآن كرئيس لكل لبنان، وانه يترك الآخرين في حلبة المباراة والمناقشة، ليقول الكلمة الفصل في الوقت المناسب، ولتكون اللحظة المناسبة للجميع.
ويقول العماد عون إنه رئيس الجمهورية الجديدة، وما يحدث الآن هو صراع على بقايا الجمهورية القديمة، لكنه أودع السياسيين خطاب القَسَم الذي أيده معظم الافرقاء لما ينطوي عليه من مواقف للمحامي يوسف فنيانوس الذي اختاره زعيم المردة ان يكون وزيرا والذي كان طوال اعوام صلة الوصل بين رئيس كتلة نواب زغرتا النيابية، وحركة أمل وحزب الله.
ثالثاً: يبدو الرئيس نبيه برّي مؤيداً من الثنائي الشيعي حزب الله وأمل في ضم ستة وزراء الى تشكيلة وزارية من ٢٤ وزيراً ليبدو ممسكاً بتلابيب اللعبة البرلمانية، بغية ضم الحزب السوري القومي الاجتماعي، وحزب الكتائب اللبنانية وحزب الأمير طلال ارسلان الحزب الديمقراطي.
وفي المعلومات ان حزب الله يفي بالتزاماته السياسية مع الرئيس نبيه بري، ويتفق الاثنان على اعتبار حكومة الثلاثين والصيغة الإنتخابية على اساس القانون النسبي، الممر الإلزامي للمرحلة السياسية المقبلة للبلاد، باعتبار ان النسبية وحدها هي جامعة، وموحدة، لمعظم الهيئات السياسية.
وفي رأي العماد عون، ان رئيس الجمهورية الجديد، يبدأ مهمته في ما بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة، وعلى اساس ما ستفرزه من نتائج، ليقرر ما ينبغي له ان يفعله في ايام جمهوريته الجديدة.
ومما لا شك فيه ان الرئيس العماد ميشال عون يتكئ على الأسس الآتية:
اولاً: المحافظة على الثنائية المسيحية التي تجلّت في اتفاق معراب بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية.
ثانياً: وجود التزام واضح بين الحزبين على الإحتفاظ بالأكثرية المسيحية الجامعة لمعظم الافرقاء في الصف المسيحي.
ثالثاً: عدم معارضة الجانب الآخر لهذا التوافق ولا سيما من قبل حزب الله وحركة أمل على ان يحتفظ كل منهما بخصوصيته السياسية.
رابعاً: المحافظة على وحدة لبنان ومعارضة الجنوح الى التجزئة.
خامساً: اعتبار التقسيم من الأخطاء السياسية التي لا تغتفر لان القوة الإسلامية الجامحة، مثل القوة المسيحية الجانحة لفريق قوي، والمؤازرة لقوى ضعيفة، غير مؤهلة لإقامة توازن سياسي في جانب وتعارض سياسي في الجانب الآخر، باعتبار ان القوة الإسلامية الشيعية والسنيّة والمارونية والأرثوذكسية والكاثوليكية، مجلبة لحرب أهلية طاحنة، ظهرت ملامحها الخطيرة في إبان الحرب السياسية خلال حرب السنتين.
وفي رأي الأحزاب الصغيرة، ان التنوع السياسي هو المظهر البناء لوحدة الأوطان، ولبنان في مطلع هذه الظاهرة، لان الأيام اظهرت ان الازمات الصعبة، هي مجلبة للموت، ومجلبة للحياة ايضاً.
ويقول المفكر اللبناني ميشال شيحا ان أي فريق يحاول الإستئثار بوضع ما، يكون مجافياً للحقيقة، ومعادياً للواقع، وهذا ما جعله في بعض المراحل يناوئ نسيبه الشيخ بشارة الخوري، عندما تغاضى عن ممارسات شقيقه السلطان سليم العدائية، لكل من كان يناصبه العداء، للممارسات الخاطئة والظالمة بحق الآخرين، ويتجاهل ان العدالة السياسية هي مرادفة طبيعية للإنصاف السياسي.
في العام ١٩٥٨، أوفد الرئيس الأميركي الجنرال دوايت ايزنهاور نائب وكيل وزارة الخارجية الأميركية روبرت مورفي الى لبنان بصفته مستشاره السياسي.
وعندما وصل الى لبنان في ١٧ تموز ١٩٥٨، اكتشف ان معظم النواب اللبنانيين كانوا ينوون الاحتجاج على التدخل الأميركي، لكنّه تمكّن من اقناعهم بالتخلي عن اعمالهم، والتركيز على اختيار رئيس جديد للجمهورية. ولذلك، فقد جنح مورفي الى الحوار مع جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة مصر وسوريا واقناع الجميع بان الحل في لبنان يكمن في الرئيس العماد فؤاد شهاب.
كان ريتشارد مورفي مقتناً بان الجيش اللبناني هو العنصر الوحيد الذي يمنع تفسخ الحكم وأكد ان اللواء شهاب مستعد للتعاون لضبط الأمور وانهاء ثورة العام ١٩٥٨.
وقيل ان اسلوب السيد مورفي باقامة حكومة قادرة على الحكم، يكمن في جمع زعماء من العناصر المتعارضة والقابلة للحوار والتوافق.
واستطاع مورفي اقامة حوار سليم ومنفتح بين الرئيس صائب سلام والشيخ بيار الجميل على انهاء فتنة او ثورة ١٩٥٨ كطريق لا بد منه لوضع أسس السلام المفقود بين اللبنانيين.
ويقال ان السيد مورفي استطاع اقناع الزعيم كمال جنبلاط والزعيم رشيد كرامي، بانتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية، على الرغم من ان ولايته لن تبدأ قبل الثالث والعشرين من ايلول. وقد فاز اللواء فؤاد شهاب بتأييد مختلف الفئات اللبنانية، باستثناء العميد ريمون اده، لانه ضد وصول عسكري الى رئاسة الجمهورية.
بعد ذلك، اعلن وزير الخارجية الأميركي جون فوستر دالاس في ٢١ تموز ان القوات الأميركية ستنسحب من لبنان، بمجرد ان تطلب الحكومة اللبنانية ذلك.
وفي ٥ آب صدرت الأوامر الأميركية بالبدء بالتخطيط لسحب القوات الأميركية من لبنان وبني الأمر على اساس الافتراض بان اللواء فؤاد شهاب سيطلب من الأميركيين الإنسحاب عندما يتولى الحكم.
وكان الأميركيون يرغبون في ان يختاروا هم بأنفسهم موعد رحيلهم، الا ان فؤاد شهاب أشار الى انه يرغب في ان يقوم الأميركيون بالانسحاب من لبنان بعد استقرار الوضع فيه.