تغيّرت باريس في غضون شهرين كأنّه مرّ عليها قرنان من الأحداث. تفجيراتُ 13 تشرين الثاني ومن ثمّ اكتساح اليمين المتشدّد للمجالس البلدية، جعلت فرنسا تبدو كأنّها تعرّضت لزلزال سياسي كبير. ويوجد في هذا البلد الذي قال عنه البطريرك المعوشي إنّه شمس تُنير لبنان من بعيد وتحرقه من قريب، مساحة محجوزة دائماً للاهتمام بتفاعلات الاستحقاق الرئاسي اللبناني. الإليزيه لا يمكنه لأسباب تاريخية تتّصل بعلاقته العريقة ببلد الأرز أن يظهر وكأنه لم يُؤدِّ دوراً في إنتاج فخامة الرئيس اللبناني المسيحي الوحيد في الشرق الاوسط، خصوصاً أنّ عملية إنتاجه تجرى عادة في الخارج.
حتّى وقت ليس ببعيد كان هناك موقفٌ نمطي للساسة الفرنسيين المعنيّين بملفّ لبنان، وهو المسارَعة الى رفض إسم النائب سليمان فرنجية كمرشح محتمَل لرئاسة الجمهورية. والسبب بسيط وواضح، وهو علاقته الأكثر من وثيقة بالرئيس السوري بشار الأسد الذي تسعى فرنسا بالتشارك مع الرياض لإزاحته عن الرئاسة السورية.
كانت الإليزيه والخارجية مجمعتين على ترديد مقاربة تقول: ستَبدو باريس أشبة بمَن يُمارس سياسة الصيف والشتاء على سطح واحد، فيما لو قبلت بأن تعمل في الوقت نفسه على إسقاط الاسد في دمشق وإيصال حليفه و«شقيقه السياسي»، فرنجية، إلى قصر بعبدا في لبنان.
لكنّ الفرص السياسية تصبح أحياناً نوعاً من القراءة في كفّ الحظ، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالرئاسة اللبنانية التي كان العميد ريمون إده استنتج منذ وقت بعيد أنها تصل لأصحاب الحظوظ وليس لأصحاب العقول.
لماذا غيّرت باريس رأيها وسارت في تأييد ترشيح فرنجية؟
الإجابة تقع في عبارتين: السعودية من ناحية، ومستجدات إنقلابية ثلاثة تعرّضت لها فرنسا من ناحية ثانية.
بين الرياض وباريس
ثمّة قناعة بأنّ الرئيس فرنسوا هولاند اتّصل بفرنجية مؤيّداً ترشيحه، نتيجة لطلب مباشر من السعودية تم تعزيزه بزيارة الرئيس سعد الحريري إلى الإليزيه من أجل هذا الهدف نفسه. لكن قبل ذلك حدثت وقائع عدة خدمت تمرحل باريس في تغيير نظرتها لفرنجية: البداية في رأي شخصية فرنسية على علاقة ببنشعي حدثت على شكل اقتحامات لجَسّ نبض باريس من ترشيح فرنجية قامت بها نُخبٌ فرنسية إعلامية مقرّبة منه.
مثلاً نشر صحافي فرنسي مقالة قبل نحو عام في صحيفة فرنسية عنوانها باقتراح «فرنجية هو الحلّ». وكان لافتاً آنذاك إدراج نشرة الخارجية الفرنسية التي تنشر أبرز ما تقوله الصحف الفرنسية، هذه المقالة ضمن موضوعاتها المنتقاة.
وعلى رغم تلك الإشارة، إلّا أنّه لم يكن ممكناً في تلك الفترة السؤال من هي الشخصيات في الخارجية الفرنسية والإليزيه المتحمّسة لترشيح فرنجية، بل السؤال الواقعي هو مَن هم الأقلّ عداءً لترشيحه.
ضمن هذه اللائحة الأخيرة يمكن إدراج جان فرانسوا جيرو الذي كان سفيراً لفرنسا في سوريا، وجان فيلكس باغانون السفير السابق في مصر وميزته أنه خدم لفترة طويلة في الخارجية الفرنسية ما جعل رأيه مسموعاً داخلها، لكنّ وزير الخارجية لوران فابيوس أبعده سفيراً للسنغال أخيراً بسبب خلافات بينهما. إضافة الى دوني بييتون الذي من سوء طالع فرنجية أنه توفي قبل أيام.
وأهميّة هذه البيئة لفرنجية تكمن في أنها ليست نمطية في رفضها، بمعنى أنها إلى جانب أنها تستبعده وتتحفّظ على ترشيحه، فهي تقبل بنقاش التعليل الذي يُقدّمه داعموه لأسباب انتقائه، ومفاده أنّ فرنجية يمتاز بأنْ لديه علاقات مع محورَي «٨ و١٤ آذار»، يمكن استثمارها في بناء جسور تفاهم تخدم إيقاظ دولة نظام الطائف الذي يؤيّده فرنجية، كما أنّ علاقته الوثيقة مع الاسد تقابلها صلات لم تنقطع مع الرياض، وثمّة مجال لتعزيزها عبر إنعاش ذاكرة علاقات قديمة لعائلته مع العائلة السعودية الحاكمة.
وكان حصل طوال الأشهر الماضية سعي ممنهج لنفض الغبار عن وقائع علاقات قديمة بين آل فرنجية والرياض. فتمّ التذكير بأنّ زوج عمته سونيا فرنجية الدكتور عبد الله الراسي الذي عاش فترة طويلة من حياته في السعودية، كان طبيباً خاصاً للملك فيصل والأمير سلمان قبل أن يصبح ملكاً.
التحوّلات الفرنسية
في الوقت نفسه كانت باريس تشهد اعتمالات داخلية إنقلابية تسمح بتقبّل معادلات جديدة لم تكن تستسيغها قبلاً، ومن بينها تبديل نظرتها النمطية الى فرنجية.
بداية هذه المستجدات تمثلت باللقاء الذي جمع البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بهولاند في نيسان الماضي. كانت هذه أوّل محادثة مباشرة بين الرجلين. قبلها كانت زيارات الى باريس تقتصر على لقاءاته بمسؤولي الخارجية الفرنسية الذين اعتادوا إدارة الظهر لانتقاداته الموقف الفرنسي في سوريا الذي لا يخدم وقف قتل وتهجير المجموعات التكفيرية للمسيحيين السوريين. بقيت الخارجية الفرنسية تُصرّ على أنّ الحلّ يكمن في أن يتموضع مسيحيّو سوريا داخل المعارضة للنظام.
وكانت آراءُ الراعي لا تصل لهولاند، لكنّ ابراهيم ضاهر أحد مستشاري الراعي عرف كيف يشقّ له نفقاً يوصله للقاء مباشر مع هولاند أثناء زيارته في نيسان الماضي. امتدّ اجتماعُ الراعي – هولاند لساعتين ونصف الساعة، بدا خلالها الأخير متأثراً بوجهة نظر الراعي عن تردّي حال مسيحيّي المشرق وأوضاعهم الديموغرافية والسياسية.
ونتيجة هذا اللقاء، أنشأ هولاند خطاً هاتفياً ساخناً بين الإليزيه وبكركي، وطلب من السفير الفرنسي في الفاتيكان تنسيق جهوده مع الديبلوماسية الفاتيكانية للدفاع عن المسيحيين السوريين وتصحيح وضع مسيحيّي لبنان ومن ضمنها المبادرة لإنهاء الفراغ الرئاسي. وبعدها أوعز الى فابيوس التحرّك لعقد مؤتمر في باريس هدفه درس حال مسيحيّي المشرق الذي عقد فعلاً في أيلول الماضي تحت عنوان «الأقليات».
في هذه الآونة من بدء مسار انتكاسة احتكار فابيوس لمجمل ملفات المشرق، حدث المستجَدّ الثاني الذي أسهم في هبوط اسمه أكثر داخل الاليزيه. في ١٤ تموز الفائت تمّ توقيع الاتفاق النووي الغربي – الإيراني في أجواء اتّسمت بعدم سرور هولاند من إدارة فابيوس لهذا الملف والتي أزعجت الإيرانيين ومنحتهم انطباعاً بأنّ عليهم إبعاد باريس في مرحلة جَني ثمار الاتفاق لأنها سعت لتعطيله.
ثمّ حدث مستجدّ ثالث تَمَثل بالتدخل الروسي في سوريا، ما عمّق قلقَ هولاند من أنّ باريس قد تخسر مكانها في تسويات المنطقة المقبلة، خصوصاً أنّ عاصفة «السوخوي» استهلّت غاراتها بقصف «المعارضة المعتدلة». ثمّ وقعت تفجيرات باريس، ما جعل هولاند مقتنعاً بأنّه آن الأوان لإحداث تغييرات دراماتيكة على كلّ سياسة باريس المشرقية والخارجية.
عند هذه النقطة أصبحت الإليزيه جاهزة لملاقاة الرياض عند نظرية ابتداع خيارات غير نمطية تجاه أزمات المنطقة التي يقع الشغور الرئاسي اللبناني ضمنها. من جهتها، اتجهت السعودية نحو إسم فرنجية نتيجة شعورها بأنّ ثمن تسوية في لبنان تبادر اليها الآن سيكون أبخس من الثمن الذي قد تفرضه عليها التطوّرات المقبلة المتّسمة بالغموض.
كما خطة إذكاء ذاكرة الرياض عن علاقتها القديمة بآل فرنجية نجحت الى حدٍّ ما في كسر حاجز الفيتو عليه. ثمّ لا يمكن في هذا الإطار إهمال دور النائب وليد جنبلاط سواءٌ خلال زيارته الأخيرة الى الرياض أو من خلال محادثاته الشخصية مع نخب القرار الفرنسي التي عادة ما يلتقيها في مقهى «ويلجانس» الباريسي الكائن على مقربة من وزارة الخارجية الفرنسية.
الى ذلك يجدر تسجيل أنّ «هفوات» ارتكبها العماد ميشال عون من وجهة نظر فرنسا، ساعدت حملة أصدقاء فرنجية في باريس لجعل اسمه مقبولاً في أروقة الاليزيه والخارجية. بدايات الشهر الماضي، قرّر هولاند ضمن توجّهه لتفعيل انتهاج سياسة حيوية ودراماتيكية، زيارة لبنان، وخطّط لأن ينجز خلالها مكسباً سياسياً خارجياً لفرنسا. وكان مطلوباً فرنسياً أن تسبق زيارته الى لبنان، زيارة يقوم بها عون الى باريس.
ويُقال إنّ الفكرة من دعوته هي إقناعه بالتخلّي عن ترشّحه ما يفتح الطريق أمام انتخاب رئيس جديد لم تكن الإليزيه قد حدّدت اسمه بعد. رفض عون قبول الدعوة، وتضافرت عوامل أخرى غير مؤاتية تسبّبت كلّها بإرجاء او إلغاء زيارة هولاند لبيروت.
في الخارجية الفرنسية يُحمّلون الوزير جبران باسيل مسؤولية التسبّب برفض عون الذهاب لباريس، وهم يأخذون عليه مغالاته في إبداء الندّية في العلاقة مع مسؤوليها، ويسمّونه «كيسنجر» من باب الغمز من قناة أنه متعالٍ.
في المقابل، نجح أصدقاء فرنجية في باريس بقيادة أحد مستشاري الأخير الحاذقين يوسف فنيانوس خصوصاً، في تقديم صورة مدروسة عن زعيم بنشعي الى نخب وبيئات القرار الفرنسي المعنية: فهو ناج من مجزرة إهدن، وشعبي ومتواضع ومحبّ للبيئة، وله علاقات خارجية واسعة مع شخصيات سياسية ورؤساء وقادة أركان عالميين حاليين وسابقين، نسَجها معهم خلال رحلاته للصيد في نوادي الصيد العالمية في اليونان وإيطاليا، الخ..
في الأسبوعين الماضيَين تعاظمت حدّة المنافسة على تلميع صورة عون وفرنجية بعيون فرنسا بين أصدقائهما اللبنانيين والفرنسيين في باريس. وقرّر كلٌّ من باسيل والنائب سيمون أبي رميا المعتبر الاشدّ صرامة في كفاحه ضدّ فرصة فرنجية الرئاسية، الذهاب شخصياً للمشاركة في تنظيم أنصار عون في باريس شنّ حملة مضادة ضدّ صورة فرنجية فيها.
ويومَ ٣٠ تشرين الثاني الماضي استجابت نخبة من «التيار الوطني الحر» بقيادة الطبيب العوني أنطوان شديد، لدعوة أبي رميا وباسيل، لاجتماع عقد في مركز «التيار» قرب «الأوبرا»، بهدف درس سبل شنّ حملة مضادّة لترشيح فرنجية. لكنّ الاجتماع الذي عُقد فعلاً، لم يتح له أن يصل لخاتمته.
وعلى رغم أنّ «الوالد الحنون عون» و«الابن البار فرنجية» بحسب التسمية المتّبعة إعلامياً في «٨ آذار»، عقدا أمس اجتماعاً في الرابية، لتنظيم خلافهما على أساس «معادلة الأفضلية للجنرال والأولوية لفرنجية في حال انسحاب الاول»، إلّا أنّ حرب السباق بينهما على قلب الاليزيه تستمر في باريس. وتزدحم على أجندة أنصار الطرفين هناك، انشطة ستتم خلال الايام المقبلة هدفها استكمال السباق بين زعيمهما على الرئاسة بصرف النظر عن نتائج لقاء غسل القلوب الذي حصل بينهما البارحة.