وتستمر الحكاية… حكاية إبريق الزيت التي تبقى على حالها من العقم والفشل. لا رئيس للجمهورية للشهر الرابع على التوالي… رأس البلاد مقطوع بخنجر الإنكفاء ومقاطعة الإنتخابات الرئاسية وتكريس الفراغ الدستوري إنطلاقا من رأس القمة ومرورا بالقمة التشريعية النيابية وصولا إلى بث الشلل وتوسيع رقعته يوما بعد يوم في سائر أنحاء المؤسسات الدستورية والإدارية والتنظيمية إلى حد بات يقارب الموت… وانقطاع نفس الحياة في جسم لبنان العليل، مما دفع بالرئيس تمام سلام إلى إطلاق الإستغاثة تلو الأخرى، وها هو يصرخ بأعلى ما يمكنه من صوت ومن أعلى منبر دولي متمثل بالجمعية العمومية للأمم المتحدة: لبنان يغرق… أنقذوه قبل أن يفوت الأوان.
لبنان يغرق… يغرق… يغرق… فهل من منقذ يعيد رأس الدولة المقطوع، إلى جسد الوطن الذي تتهاوى عليه الضربات من كل حدب وصوب، ولعل أوجعها وأكثرها إيلاما وأشدها تحجرا وعنادا ومنهجية فارغة : حكاية إبريق الزيت التي تزداد العتمة من حولها وتوصد أبواب ومنافذ الأمل للخروج من سوء أحوالها وسواد طابعها وأثرها المميت على البلاد وعلى العباد. لبنان يغرق… وما زال يغرق، والوطن كله يصرخ ويستنجد بأية خشبة خلاص قد تصادفه بين دفق الأمواج العاتية، ومع استفحال العضات الكاسرة، واللسعات السامة، والأذى المتمادي، تنطلق في الأجواءالعامة أوضاع مشبوهة، ليخترع كل لنفسه عدوا مختلفا عن عدو الآخرين. حيث يعمل البعض إلى توجيه الإتهام والحقن والحقد إلى عرسال وأهلها وبعض جوارها، معتبرا أنها تعج بالتكفيريين، وتستأهل القمع والتهجير والتدمير، دون أن يشفع لها أن معظم أهلها منتمون إلى الجيش اللبناني وإلى قوى الأمن المختلفة، وأن الخراب المستحدث لم يلحق إلا بها، فقتل جنودها والعديد من أهلها وهم يدافعون عن قريتهم وعن وطنهم، وبوشرت عمليات القتل والإرهاب من خلال قطع رؤوس منتسبة إليهم، ومع ذلك، لعرسال هذه، قرية الشهداء والمخطوفين والمنكوبين والمقطعة رؤوسهم، تنضم قصة إبريق زيت أخرى، اختلقت في اطار تآمري مريب، حيث تم التخطيط والعمل المموه والمتخفي على إزالة عرسال ومحوها من خريطة منطقتها، إرضاء للمطالب المتآمرة على لبنان واللبنانيين، من خلال الإصرار على جر لبنان بأسره، دولة وشعبا وجيشا وقوى شعبية مختلفة، إلى حملة الإنخراط بالحرب السورية دفاعا عن نظام بشار الأسد وتلبية للأوامر الفارسية الرامية إلى مد السلطة الصفوية وصولا بها إلى شواطئ البحر المتوسط.
لبنان يغرق… يغرق… يغرق، ووسط صيحات الإستغاثة التي يطلقها الرئيس تمام سلام، الذي يبذل منذ توليه سدة القيادة جهودا إستثنائية جبارة سعى بموجبها إلى ترميم الإنهيارات الحاصلة في كل مكان وكل موقع وكل مؤسسة، مستعينا بما منحه الله من صبر وحكمة وتصميم على فض الإشكالات وحل المشاكل المستعصية بأقل كلفة ممكنة، تبقى للبلاد ما تبقى من أواصر وحدتها وسلامة أوضاعها وحماية أمنها المستهدف من كل حدب وصوب. ومع ذلك، لم يسلم هذا الرئيس الذي لملم كل صفاته وطاقاته المذكورة، من ألسنة البعض وكافح الأفخاخ المنصوبة له وللوطن من البعض الآخر، وقد عانى وما يزال، من محاولات الراغبين في عرقلة مسيرة البلاد نحو حد أدنى من مواقع الإنقاذ والخلاص، ولئن كان مسموحا لذوي الشهداء والضحايا أن يعمدوا إلى «فش خلقهم» بالإحتجاج والإتهام والصرخات والتصرفات الصادرة عن قلوب طفحت بالألم والحسرة والتخوف من أن يستيقظ يوما ما خبر الخناجر والسيوف وأدوات القتل البربرية المختلفة، وقد طاولت أعناق أبنائهم الشريفة العفيفة التي نذرت حياتها للوطن كله، بأبنائه وفئاته وطوائفه ومذاهبه التي يكاد تعدادها وتوجهاتها ومجابهاتها أن يزيد عن تعداد ألوية الجيش اللبناني.
نفهم كل الألم وكل الحسرة لدى هؤلاء وندعو الله عز وجلّ، أن يعين أمهات وآباء الشهداء والمنكوبين على الصبر والقدرة على تحمل الصدمات الصعبة، كما ندعوه وندعو أهل الحل والربط، إن بقي لهم وجود، وندعو معهم السلطة الطائلة والقادرة، إن بقي منها أثر للطول والقدرة، أن يبعدوا أيادي المستغلين والمستثمرين السياسيين على كافة أنواعهم وأجناسهم وانتماءاتهم، فهؤلاء متربصون دائما وأبدا، لهذا الوطن ولدولته ولميثاقية وجوده وديمقراطية مؤسساته، هؤلاء يحرضون ويثيرون كل منكوب وكل معترض وكل غاضب ويحولون مسيرته إلى وجهات مختلفة بعيدة عن الواقع والحقيقة، ويصوبون سهامهم إلى حيث يمكن أن حيث يمكن أن تتأجج من رماياتها، رياح الفتنة ونار الخراب الوطن. وبالتالي كفى تلاعبا بأساسيات الوطن وأعمدة وجوده وبقائه واستمراره. وإن توجيه موجات الغضب، الحقيقية منها والمفتعلة، إلى الحكومة القائمة، بدءا من رئيسها
الغارق تماما في خضم الأحداث التي يكاد الوطن كله بكل زعاماته وقياداته وجهاته وفئاته، أن يكون عاجزا عن إدراك نقاطها ومواقع الفصل فيها. فإذا بالتوجهات والتوجيهات المشبوهة تختلق وتساق إلى حيث آثار ومعالم الحكمة والوطنية الحقة والصبر على المكاره، ما زالت متوفرة في رئيس يتمتع بهذه الصفات التي ما زالت حتى الآن تعينه على البقاء والاستمرار في الحكم، وهو رأس الدولة البديل في وقت يغيب فيه الرأس الأصيل الذي لا يمكن لدولة أن تقوم لها قائمة في حال تغييبه وقطع رأس وجوده السياسي وإزالته من الوجود، طمعا من البعض في إيصال هذه الجمهورية الميثاقية متعددة الطوائف والتوجهات إلى وضع ميؤوس من استمراريته، بما يدفع إلى جمهورية أخرى، بعيدة تماما عن جذور هذا الوطن وعن أسسه وعن منافذ الحياة والإستمرار والعيش الطبيعي الآمن في ارجائه التي يصر البعض على الدفع بها إلى مهاوي الأخطار الفادحة.