إنَّه رفيق الجمهورية ولو حَمَل المتحامِلون وهتفوا دون كلل أو ملل على أنَّها جمهورية رفيق… لا ليست كذلك ولا هو كذلك… حملَ أحلامه وطموحاته ويمَّم شطر المملكة، وعاد منها موضِّباً أحلامه في عقله فطرحها مشاريع في العاصمة الأحب إلى قلبه والأقرب إلى عقله بيروت.
بدأ ببناء البشر قبل بناء الحجر. ستٌ وثلاثون ألف منحة جامعية لطلابٍ لبنانيين من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق، كان هذا هو جيشه الأول من حَملَة الإجازات الجامعية والذي انطلق يعمل في البلد، فحوَّله إلى أكبر ورشة في العالم. وكم هو دقيقٌ الكلام عنه أثناء توليه رئاسة الحكومة من ان البلد ورشة، فدعا الناس إلى التلهي بالعمل بدل التلهي بالحكي.
***
مع بناء البشر، وفي مواكبته، باشر ببناء الحجر:
قلبُ بيروت، قلبُ لبنان، باشر العمل فيه بدءاً من نهاية ما عُرِف بحرب السنتين فأزال ركام الحرب من وسط بيروت أواخر العام 1976، ولو قُدِّر له أن يكون حيّاً لكان احتفل السنة المقبلة بالذكرى الأربعين لإعادة بناء قلب بيروت، لكنَّ القدر كان له بالمرصاد حيث أخذ كل شيء لكنه لم يستطِع أخذ الذاكرة، فما من اغتيال في العالم يبقى على الصفحة الأولى على مدى عشرة أعوام من دون أن يتراجع إلى الصفحات الداخلية، حتى اغتيال جون كينيدي لم يحظَ بهذا الإهتمام، والسبب في ذلك يعود إلى أنَّ ما حصل يمكن اعتباره الإغتيال بالقهر، فلقد سبق اغتيال الحريري محاولة قهره لكنه لم يُقهَر ولم يتراجع إلاَّ أمام طنٍّ ونصف طن من المتفجِّرات.
***
لم يكن رفيق الحريري رجل أحلام فحسب بل كان رجل تصدير الأحلام. السيد عبد اللطيف الشمَّاع، صديق الرئيس الشهيد وأمين سرِّه، إذا صحّ التعبير، كان يُدلي بشهادته أمام المحكمة الدولية الثلاثاء الفائت، سأله وكيل الإدعاء غرايم كاميرون في معرض الإستفسار عن علاقة الحريري بالمسؤولين في الدول:
كيف كانت علاقة الرئيس الحريري برئيس وزراء الإمارات الشيخ محمد بن راشد، فروى الشمَّاع ما يلي:
كانت علاقة صداقة قوية وأذكر انه أول مرة ذهبنا إلى دبي للقاء الشيخ محمد بن راشد، وكنت جالساً إلى جانبه، سأله الشيخ عن مشاريعه وتطلعاته للبنان وماذا يخطط لتطوير البلد، وكان الرئيس الحريري يحب التكلم بهذه الأمور ويسترسل فيها لأنها كانت أحب إلى قلبه من السياسة، فشرح له ماذا ينوي أن يفعل لتطوير لبنان وتطوير الإقتصاد والمؤسسات. هذه كانت المرة الأولى التي يقابل فيها الرئيس الحريري الشيخ محمد بن راشد، وأذكر المرَّة الثانية التي ذهب فيها لمقابلته، وأعتقد بعد سنة، قال له الشيخ:
أنت تفكِّر بالمشاريع الإنشائية والتطوير ونحن استفدنا من أفكارك ونطبِّق هذه الأمور في دبي، وإنْ شاء الله تستطيع أن تطبق ما تصبو إليه في لبنان.
هذا كلامٌ موثَّق في أعلى هيئة قضائية في العالم، وهو سيبقى إرثاً للأجيال اللبنانية والعربية، وهو الإرث الذي يقول إنَّ دبي بُنيت، في جزء منها، بأفكار لبنانية وتحديداً بأفكار من الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
تلك هي العظمَة. تلك هي الشهادة التي لا يرقى إليها الشك.
***
الأفكار ذاتها التي أعطاها لدبي قدَّمها في بيروت، وهذا ما سبَّب له مشاكل عدة، كُثرٌ غاروا منه، كُثرٌ غاروا عليه. قال له أحد زوّاره ذات مرة:
يقولون إنك صرت أكبر من البلد، فأجاب بسرعة بديهة خارقة:
فلنُكبِّر البلد فأصير أصغر منه.
***
اليوم، أين أصبح الوطن الصغير الذي أراده رفيق الحريري كبيراً؟
الوطن يتألَّم، المخلصون له وفيه تتنازعهم الأحلام والكوابيس، ينامون على حلم ويصحون على كابوس، لكن قرارهم واحد لا عودة عنه إنه الصمود في الحاضر للحفاظ على المستقبل… هذا وعد، وهذا عهد يحمله نجل الشهيد الزعيم الشاب سعد الحريري، الذي منذ شباط 2005 وحتى شباط 2015، يحمل الوديعة في قلبه وعقله، يجول بها في العالم، يعود بها إلى لبنان ليزرعها فيه لتنبت مئة رفيق الحريري، ألف رفيق الحريري، مليون رفيق الحريري.