IMLebanon

قصّة «عرض القصَير»: الحقائق والرسائل

بعيداً من السجال السياسي الدائر حول العرض العسكري لـ«حزب الله» في القُصير، سواء منه الذي يثمّنه غالياً، أو المنتقد له، فإنّ هذا العرض شكّل مناسبة ثمينة لخبراء كثر، ليلتقطوا من خلاله صورةً حقيقية لواقع «حزب الله» في مرحلة ما بعد مشاركته في الحرب السورية.

هؤلاء يضعون هذا العرض حسبما ظهرت وقائعه، في سياق أنه «يؤكّد حقائق» من جهة، ويُطيّر «رسائل» لها أهدافها المهمة، من جهة ثانية:

أوّلاً – يشكّل العرض مساهمة استراتيجية للحزب في إطار «الحرب النفسية» الدائرة بين تل أبيب وحارة حريك. قبل شهرين قال آفي ديختر رئيس لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الاسرائيلي، إنّ «حزب الله» خسر في سوريا 1600 مقاتل وما بين 5 إلى 6 آلاف جريح.

كلام ديختير أتى في سياق مادة إعلامية اسرائيلية يدعمها «الموساد» و«الشاباك» يتمّ بثّها منذ عامين بكثافة، وهي تريد القول «إنّ الحزب يدفع ثمنَ مشاركته في سوريا من رصيد قوّته الاستراتيجية».

هذا المعنى نفسه حاوَل الاسرائيليون ومعهم إعلام للمعارضة السورية، تركيز الضوء عليه في مناسبة الهجوم الثاني الذي شنّه «جيش الفتح» لفكّ حصار حلب أواخر الشهر الماضي، والذي تقصّد مخطّطوه من بين عدة أهداف اساسية، أن يظهر ابو محمد الجولاني بدور المشرف عليه شخصياً، وأن تنتقي خطة الهجوم نقاطاً دفاعية للنظام حول حلب، تتميّز بأنّ من يَحرسها هم مقاتلو «حزب الله» خصوصاً، وتمّت مهاجمتها بنحو اربع حافلات مفخّخة يقودها انتحاريون، ما سَمح لمسلّحي المعارضة بفتح ثغرات إلى داخل المدينة، عاد النظام واستعاد معظمها.

داخل خطط هجوم «جيش الفتح» أخيراً على حلب، وأيضاً داخل معظم خططه لمهاجمة ريفها الشمالي والجنوبي، يوجد دائماً هدف أساسي وهو «التقاط صور لهزائم» يُمنى بها «حزب الله» في سوريا.

ولا تقتصر هذه الخسائر، المطلوب إظهارُها، على فقدانه لمقاتليه، بل أيضاً، وبالأساس، على «فقدانه الكفاية العسكرية» توصّلاً للقول إنّ «أداء الحزب العسكري المحترف تمّ استنزافه في سوريا»، وهو في حالة تراجُع، ولم يعد له «بريق جودة الكفاءة» نفسه الذي كان عليه خلال بدايات دخول الحزب الى سوريا، خصوصاً خلال معاركه في القصَير!

وداخل ذاكرة غرَف العمليات الاساسية التي تدير المعارضات السورية المسلحة، خارج سوريا، توجد «عقدة القصير»، بصفتها تمثّل نجاحاً عسكرياً لـ«حزب الله» غير مسبوق قياساً بكلّ المعارك التي شهدها الميدان السوري بين كلّ أطرافه العسكرية.

فسيطرة الحزب على القصير وريفها، أنهَت وجود مسلحي المعارضة بكامله في تلك المنطقة، ومنَعت عودتهم، بمعنى انّها طوَت صفحة خضوع هذه المنطقة لمعادلة الكرّ والفر التي تجري في كلّ مسارح الاشتباكات السورية.

أضِف أنّ الحزب دشّن في القصير تكتيكات مركبة تجمع بين الضغط العسكري على المعارضة وفرض تسويات عليهم لانسحابهم منها الى مناطق يُحدّدها المهاجم وليس المنسحب. وهو أمرٌ لم يحصل خلال ايّ معركة في المناطق الاخرى، حيث كان المسلحون يحدّدون المناطق التي يرغبون بالانسحاب اليها.

وأخيراً وليس آخراً، أدّت معركة القصير الى إقفال جزء كبير من جبهة الحدود بين لبنان وسوريا.

قبل القصير كانت طرابلس اللبنانية تُعتبر جزءاً من ميدان حمص. وكانت المعارضة تقول إنّ ميدان حمص يبلغ ألف كلم متر مربّع ويمتد من حمص المدينة حتى البساتين حتى الوعر وصولاً إلى ميناء طرابلس.

بعد سيطرة النظام و«حزب الله» على القصير، أقفِل خط إمداد الجبهات الحدودية بين لبنان والمعارضة المسلحة في حمص وريفها.

تَجدر هنا إشارة مهمّة، يؤشّر إليها التوقيت الذي جرَت فيه معركة القصير، وكان هناك تبَنٍّ حينها من قبَل المعارضة السورية لنظرية عسكرية طرِحت آنذاك حتى في إحدى اجتماعات «دول أصدقاء الشعب السوري» في باريس، ومفادُها أنّ المعارضة تستطيع عزلَ النظام وإسقاطه في دمشق، عبر سيطرتها على حدود سوريا مع دول جوارها.

وسُمّيت تلك الخطة بـ«حرب الجبهات الخمس»، أي حدود سوريا مع لبنان والعراق وتركيا والجولان المحتل والأردن. بهذا المعنى شكّلت معركة القصير، إلى جانب المعاني الآنفة، خرقاً استراتيجياً لخطة حروب الجبهات الخمس، وعرضُ الحزب العسكري في القصير يريد نَكأ ذاكرة «عقدة القصير» لدى أطراف إقليمية ودولية، وذلك في وجه الحملة النفسية ضدّه التي تتبنّى مقولة انّ الحرب السورية تستنزف كفاية «حزب الله» العسكرية.

ثانياً – هناك سؤال طبيعي يطرَح نفسَه، وهو لماذا لم يحتسب الحزب خلال تحضيره للعرض العسكري في القصير، من استغلال إسرائيل الفرصة وتوجيه ضربة جوّية لأرتاله العسكرية المشاركة فيه. النظرية السائدة لدى خبراء متابعين لملفّ الحرب بين الحزب وإسرائيل، ترى أنّ الإجابة على هذا السؤال تشكّل إحدى أبرز رسائل الحزب من عرض القصير، ومِن بينها طرح إمكانية أنّه بات يمتلك غطاءً جوّياً لنقاط تواجدِ ثِقله العسكري في سوريا وربّما أيضا في لبنان.

والسؤال البديهي هو هل يملك الحزب فعلاً أنظمة دفاع جوّية يعتدّ بها، ما جَعله يتجرّأ على كشف جزء من قوّته النخبوية خلال عرض القصير من دون أن يخشى من الاستهداف الاسرائيلي الجوّي لها؟ أم أنّ عدم تحسّبِه لغارةٍ إسرائيلية تعكس ثقتَه بأنّ العرض ستَحميه قواعد الاشتباك مع إسرائيل التي تقوم على احترام الأخيرة لتوازن الرعب القائم بينهما، وهذا ما جعل الحزب مطمَئناً إلى أنّ تل ابيب لن تقدِم على مغامرة عسكرية؟

وأيّ مِن المعطيَين الآنفين كان صحيحاً، فإنّ الحزب من خلال عرض القصير ثبتَ قواعد اللعبة مع إسرائيل وفق تفسيره لها، وترَك في اسرائيل هاجساً جديداً عن إمكانية امتلاكه قوّةً دفاعية جوّية مستجدّة.

ويُشار ضمن السياق عينه، إلى أنّ ظهور أكبر تجمّع عسكري لـ«حزب الله» في القصير، كان سبَقه قبل فترة قصيرة ظهور الأمين العام للحزب السيّد حسن نصرالله علناً لمرّتين متتاليتين خلال 48 ساعة في مناسبة عاشوراء، علماً أنّ تكرار هذا الظهور، هو «عيب أمني» لأنه يَسمح لاسرائيل بالاستعداد إذا كان لديها قرار باغتياله.

غير أنّ تكرار نصرالله لظهوره في فترة زمنية قصيرة جداً، يؤكّد أنّ الحزب بات يحتسب حماية أمن نصرالله ليس فقط من خلال أساليب التخفّي، بل ايضاً من خلال واحد من أمرَين وربّما من خلالهما مجتمعين؛ أوّلاً، ثقتُه بأنّ تطبيقات معادلة توازن الرعب بين الحزب وإسرائيل، أصبَح لها فعلُها الحاسم داخل العقل الاسرائيلي العسكري والسياسي. وثانياً، امتلاكه لنظام دفاع جوّي، توجد بخصوصه ثقة كاملة بأنّه قادر على حماية ايّ مساحة يَعتبرها الحزب استراتيجية وحيوية له.

ثالثاً – وهو أمر إشكالي، ويتمّ طرحه انطلاقاً من انّ سوريا مع دونالد ترامب دخلت مرحلة إعطاء اولوية لقتال «داعش»، وإعطاء اولوية للتعاون مع القوى العسكرية الموجودة في الميدان السوري والقادرة على إنجاز هذه المهمة المعقدة عسكرياً، خصوصاً أنّ التقدير الغربي يعترف بأنّ معركة الرقة أصعبُ عسكرياً بما لا يقاس من معركة الموصل. ومن حيث حجم العديد ونوعية التدريب والعتاد، يُعتبر «حزب الله» في سوريا قوّةً توازي في أهمّيتها القوةَ العسكرية للأكراد السوريين.

وخلاف واشنطن مع أنقرة يقع في أنّ الأخيرة تصنّف القوّة الكردية السورية بأنّها إرهابية، بينما تعتبرها واشنطن قوّة مؤهّلة دون سواها من القوى المحلية لتحقّقَ إنجازات إخراج «داعش» من مناطق سيطرتها أو عزلِها. والواقع انّ عرض القصير يؤكّد صورة «حزب الله» في سوريا بأنّه من بين القوى النادرة في الميدان السوري القادرة على مواجهة «داعش».

لا يعني ما تَقدّم أنّ الحزب يقدّم عرضاً للأميركيين لكي يعتمدوه قوّةً في وجه «داعش»، ولكنّ واشنطن ستقرأ الدلائل العسكرية عن قوّة الحزب التي يُظهرها عرض القصير، وقد يقودها ذلك، وهي في زمن الواقعية السياسية «الترامبية»، الى التفكير مليّاً بدور «حزب الله» في ضرب «داعش» في سوريا، وبالتالي إلى شطب فكرة موجودة في أدراج البنتاغون ومفادها أن تتمّ مقايضة موسكو بإخراج الحزب من سوريا شرطاً أميركياً للقبول بطلبها الخاص اعتبار «جبهة النصرة»، وبنحو نهائي تنظيماً إرهابياً.

ومِن ضمن الاهتمام الاميركي ايضاً بعرض القصير، برَز ردّ فِعل وزارة الخارجية الذي اعلنَ قلقَه لوجود مركبة عسكرية اميركية الصنع في العرض، كتلك التي يستوردها الجيش اللبناني من الولايات المتحدة الاميركية، ما أثارَ سؤال واشنطن عن طريقة حصول «حزب الله» عليها، وما إذا كانت قد وصَلت إليه بطريقة أو بأخرى من مخازن الجيش اللبناني.

طبعاً هذا النوع من القلق الاميركي ليس جديداً، فأثناء «عملية الشجرة» في مركبا التي أطلقَ فيها جنديّ لبناني النار على دورية إسرائيلية تجاوزت الخط الحدودي، حاوَل الاميركيون التحقيقَ بنوعية الرصاص الذي أطلقَه الجندي وما إذا كان مرسَلاً للجيش اللبناني من واشنطن.

وفي كلّ مرّة يكتشف الاميركيون أنّ سوق السلاح الأسود مفتوح أمام كلّ من يريد الحصول على أيّ نوع منه تقريباً، خصوصاً إذا كان تقليدياً وقليل النوعية الممتازة بحداثة أجهزته.

ولكنّ واشنطن، بحسب مصدر مطّلع، لا تستطيع إلّا إثارة موضوع الخشية من انتقال أسلحتها المرسلة للجيش اللبناني إلى أيدي «حزب الله»، لأنّ ضمن تشريعات بيعِ الأسلحة الأميركية في الكونغرس، يوجد نصّ واضح يشترط ألّا تتضمّن اتفاقات تصدير الأسلحة الأميركية – سواء المباعة أو التي لها شكل الهبة، لبعض الدول، وبينها لبنان- ضماناً واضحاً بأنّها لن تصل إلى تنظيمات تعادي إسرائيل.