منذ اندلاع جبهات شمال سوريا، يسود «الهدوء النسبي» كلّ الجبهات اللصيقة بالعاصمة، سواءٌ في ريفِها الشمالي أو الشرقي والجنوبي. والانطباعُ السائد في دمشق أنّه «هدوءُ ما قبلَ العاصفة» المنتظَر نشوبُها خلال شهر رمضان.
في رمضان 2013، هاجَم مسلّحون دمشق، تمَوضعوا في ريفها اللصيق. ونجحَت الاندفاعة الأولى في اختراق بعض دفاعات المدينة، لكنّ الجيش السوري استعادَ زمام المبادرة وردّ المهاجمين.
يَتعاظم هذه الأيام الهمس في كواليس العاصمة عن موعد رمضان المقبل، بوصفِه التوقيت الذي سيُكرّر فيه المسلّحون مهاجمةَ دمشق. هذه المرّة لن تكون معركة دمشق رمضان 2015، مشابهة لمعركة رمضان 2013. النظام سيدافع عنها انطلاقاً من أنّها تحمل خطراً جدّياً على وجوده، كونها تأتي بعد سلسلة انهيارات متلاحقة لوجوده في شمال سوريا، وأيضاً في الجنوب حيث خسرَ موقعَ اللواء 52 في درعا، أحد خطوط دفاعِه الحصينة عن العاصمة.
هناك معلومات عن إنشاء جدار حماية حول دمشق معزّز بقوى النخبة في الجيش السوري وبإمداد بشَري يتَشكّل من مقاتلين كثُر من غير السوريين جنَّدَتهم إيران. وفي المقابل يتوافر غير سيناريو عن خطط لـ«داعش» و«النصرة» وفصائل إسلامية متشدّدة لشنّ «غزوة رمضان» على العاصمة بهدف السيطرة عليها، أو أقلّه خلق خطوط تماس داخلها.
تُسَلّط السيناريوهات المطروحة لـ«غزوة دمشق الرمضانية» المتوقّعة، الضوء على اعتبارات أساسية عدّة، يُعتبَر أوّلها وأخطرها السيناريو الذي يتحدّث عن دور إسرائيلي حتميّ في أيّ معركة تَنشب ضدّ دمشق انطلاقاً من محورَي القنيطرة ودرعا – السويداء.
يَستند هذا الجزمُ إلى «تقدير معلوماتي» يفيد بأنّ إسرائيل بعد استخلاصها لعبَر عمليتِها ضدّ موكب «حزب الله» والحرَس الثوري الايراني في القنيطرة، وما تلاها من ردود كان بينها تنفيذ عمليات مقاومة في الجولان، أنشأت استراتيجية تربط بين مستقبل ضمان «أمنها» وبين الأحداث العسكرية في منطقتَي درعا والقنيطرة.
وبموجبها ألزمَت تل أبيب نفسَها منعَ الحزب والحرس من الاقتراب من هاتين المنطقتين الملاصقتين لحدودها، حتى ولو كان ذلك عن طريق سماحها لـ«النصرة» وكوكتيل من فصائل المعارضة بالتموضع فيهما.
وجاءت أخبار سقوط خط الدفاع 52 في درعا، لتعَزّز مصداقية هذا التوَجّه الإسرائيلي للسماح حتى لـ»النصرة» بالحلول مكان قوات النظام في درعا، كضمانةٍ لعَدم تقدّم «حزب الله» إليها وتحديداً إلى منطقة المثلّث الحدودي السوري – الأردني – الإسرائيلي في وادي اليرموك قرب درعا.
كان لافتاً تبَنّي «الجيش السوري الحر» إسقاطَ اللواء 52، على رغم أنّ «النصرة» هي الجهة التي أسقطَته، وعلى رغم أنّ غنيمةَ الأسلحة التي تمّ الاستيلاءُ عليها من مخازن اللواء، وُضِعت في تصرّف مسؤول «النصرة» العسكري في مدينة الحراك الواقعة قرب درعا.
ومن الواضح أنّه تمّ تعَمُّد إبعاد «النصرة» عن الواجهة لمصلحة إبراز دور «الجيش السوري الحر». والهدف هو تطيير رسالة «تطمين كاذبة» إلى الداخل الإسرائيلي والإيحاء للمجتمع الدولي بأنّ ما حدثَ لم يكن تواطؤاً إسرائيلياً غيرَ مباشر، مع «النصرة» المصنّفة دوليّاً، بأنّها إرهابية.
وفي حين تكمن أهمّية سقوط اللواء 52، من منظار إسرائيل بأنّها أبعدَت احتمالَ وصول «حزب الله» إلى منطقة المثلث الحدودي الملاصق لها، فإنّ الحدثَ نفسَه يَهمّ «النصرة» لجهة أنّه يزيد من إمكاناتها لتطوير هجوم شامل انطلاقاً من محور درعا ثمّ السويداء في اتّجاه دمشق، وذلك بالتزامن أيضاً مع هجوم مِن مواقعها في القنيطرة في اتّجاه العاصمة.
كان متوَقَّعاً أنّ تنتقلَ «النصرة» فور «هضم» سيطرتِها على موقع الـ52 لمحاولة إسقاط مطار الثعلة قرب السويداء، بوصفِه الحاجز الأخير قبلَ انتقالِها لخوض معركة دمشق.
سباق بين «النصرة» و«داعش»
على أنّ طريق «النصرة» إلى دمشق داخل الجبهة الجنوبية، يَلقى منافسةً مِن «داعش» التي لديها أيضاً طرقٌ أخرى لبلوغِ العاصمة انطلاقاً من تدمُر في البادية السورية، أو مِن مخيّم اليرموك الذي بات مفتوحاً على حيّ الحجر الأسود، ما شَكّلَ جبهةً مفتوحة على الطرف الجنوبي اللصيق بدمشق يَحتشد فيه نحو سبعة آلاف مقاتل من «داعش» ومبايِعيها.
واضحٌ اليوم أنّ «غزوةَ دمشق الرمضانية»، هي محلُّ سباق بين «داعش» و«النصرة» لجهة مَن يُبادر لفَتحِها أوّلاً. وأحدثُ مؤشّر على ذلك هو أنّ هجوم «النصرة» تحت عنوان «الجيش السوري الحر» على اللواء 52 الذي مثّلَ مقدّمةً لشَنّ هجومِها على دمشق، تزامَن مع محاولة «داعش» للتقدّم في اتّجاه السويداء لتصبحَ أقرب من العاصمة.
ويرى مراقبون أنّ «داعش» تملكُ غير خَيار لغَزو دمشق؛ أبرزُها التفافُها من تدمُر في اتجاه السويداء ودرعا لإحكام الطوق على العاصمة على شكل قوسٍ مِن جهاتها الثلاث الشمالية والشرقية والجنوبية.
وبالإضافة إلى خَيار السويداء التي يتعاظم قلقُ سكّانها الدروز مِن كونِها ستكون إحدى ساحات حرب الجبهة الجنوبية المتوقّعة، وإحدى المداخل الاستراتيجية لحرب المسلّحين على دمشق، يوجد أيضاً لدى «داعش» خياران آخران أكثر خطورة:
الأوّل التوَغّل من تدمُر نحو الغوطة الشرقية لتصبحَ موجودة في الريف اللصيق بالعاصمة.
الثاني غزو العاصمة انطلاقاً من مواقعِها في الحجر الأسود ومخيّم اليرموك جنوب دمشق. ويمكن لـ»داعش» أن تدمجَ هذين الخيارَين في هجوم واحد.
خَيار الغوطة الشرقية
يرى مراقبون عسكريون أنّ سيطرةَ «داعش» على تدمُر يمثّل نقلةً استراتيجية أرادَت منها استخدام تدمُر نقطةَ انطلاقٍ تختار منها التوَجّه لأيّ هدف استراتيجي تريده على طول مناطق حمص ودمشق وريفها.
هذا الواقع الذي يُمَثّله وصول «داعش» لتدمُر هو الذي جعلَ الخبَراءَ العسكريّين يطرَحون بكثير مِن الحيرةِ السؤالَ عن خطوَتِها التالية: هل تتّجه نحو القُصَير عبر البادية انطلاقاً من تدمُر ومن ثمّ إلى وادي خالد اللبناني في اتّجاه طرابلس لتنالَ هدفَها الاستراتيجي بامتلاك مَنفَذ لها على البحر المتوسط؟
أم أنّها ستحاول الالتفافَ منها في اتّجاه السويداء ودرعا لإحكامِ الطوق على العاصمة؟ أم أنّها ستتّجه منها الى الغوطة الشرقية المفتوحة على بادية الشام عند نقطة بلدة أكبر بلدات الغوطة وعاصمتها ومعقل ومسقط رأس زهران علوش متزعّم فصيل «جيش الإسلام» أكبر قوّة في تلك المنطقة. ثمَّة توَقّع أن تُكرّر «داعش» مع الغوطة الشرقية مفاجأتَها نفسَها مع تدمر التي هاجمَتها عبر البادية من الرقّة.
ويَجدر ضمن هذا السيناريو إبراز معطيات أساسية تستطيع «داعش» استغلالَها، أبرزُها أنّ حالة «جيش الإسلام»، طرَأ عليها وهَنٌ مستجدّ خلال الأشهر الأخيرة، أدّى إلى تضَعضُع مكانَة زهران علوش داخله وحتى داخل كل الغوطة. علوش موجود الآن في الأردن. وعلى رغم الأنباء عن محادثات يُجريها في الخارج تحضيراً لمعركة دمشق، إلّا أنّ المعلومات المستقاة مِن داخل الغوطة الشرقية تُسَرِّب الآتي:
أ – يواجه علوش داخل الغوطة وضمنَها معقله في دوما، احتجاجاً شعبياً عليه بَعد تراكم أخطائه وعلى رأسِها قصفُه قبل نحو ثلاثة أشهر العاصمة، ما استتبَع ردّاً مِن الطيران السوري وصلَ لسِتّ غارات خلال يومين.
ويُقال إنّه كان الأعنف منذ بدَأ سلاح الجوّ السوري تدَخّله في الأحداث السورية. قبل هذا التطوّر، كان النظام يتجنّب قصفَ دوما ويَحصر ردودَه العسكرية في ضواحيها. ورأى سكّان دوما أنّ علوش أخطَأ في استدراج ردّ النظام إلى داخل البلدة.
ب – يتركّز الاحتجاج الآخر على «سجن التوبة» الذي أقامَه علوش في منطقة نفوذِه ويحتجز داخلَه نحو عشرة آلاف شخص ليسوا جميعهم علويّين، بل ضمنهم مواطنون من أبناء الغوطة الشرقية وأبناء مساكن عدرا المخصّصة لإسكان الضبّاط الصغار السوريين.
«سجن التوبة» لا يتكوّن في مبنى واحد بل يتوزّع «نزلاؤه» على منازل مؤيّدي علوش في كلّ الغوطة. ويقال إنّ علوش لم يقَيّد حرّية هؤلاء فقط لأنّه يَشكّ في ولائهم له، بل لأنه يفكّر في استخدامهم دروعاً بشَرية فيما لو فكّر النظام باقتحام معاقله.
ج – وهو الأمر الأهمّ كونه يتّصل بأنّ زهران بقيَ منذ سيطرته على الغوطة الشرقية، يحصَل على الإمداد من الأردن عبر طريق البادية السورية، ولكن بعد سيطرة «داعش» على تدمر الواقعة وسط البادية، أصبح يحتاج إذنَ أبو بكر البغدادي لتمرير أيّ إمدادات له. وأصبحَت هذه الحاجة الآن ماسّة بعد نجاح «حزب الله» في إقفال منفَذ القلمون الثاني والأخير في وجهه.
سبقَ لزهران علّوش قبل نحو عام أن نجَح في قمعِ محاولةٍ لـ»داعش» ببناءِ حيثيّة له في الغوطة الشرقية. ومُذّاكَ الوقت يُناصِب البغداديّ العداء لعلوش. وثمَّة سؤال مبَرَّر يُطرَح حاليّاً، وهو مِن أين يحصل «جيش الإسلام» على الإمدادات طالما إنّ منفذَه الوحيد عبر البادية، بعد إقفال القلمون، أصبَح في يد «داعش».
يُشاع أنّ زهران ابتعَد عن الغوطة الشرقية نتيجة انقلابٍ صامت داخلَ «جيش الإسلام» عليه، وأنّ نائبَه أبو محمد الفاتح أصبَح هو القائد الفعليّ لهذا الفصيل، وأنّه نسجَ علاقةً خَفيّة مع «داعش» تضمَن استمرارَ وصول الإمدادات والسلاح إلى الغوطة الشرقية عبر البادية في مقابل وعدِه للبغدادي بمبايعته في اللحظة المناسبة، والمقصود بها لحظة بَدء غزو «داعش» لدمشق انطلاقاً من ريفِها اللصيق بها في الغوطة.
ليس مستبعَداً ضمن هذا السيناريو أن تنجحَ «داعش» في إسقاط الغوطة الشرقية، بواسطة هجوم مُزدوج تَشنّه عليها من البادية، يَتزامن مع عملية لإسقاطها من داخلها بواسطة إعلان أجنحة داخل «جيش الإسلام» مبايعتَها.
ويُكرّر هذا الأسلوب السيناريو نفسَه لسيطرة «داعش» على مخيّم اليرموك الذي نتجَ عن تواطؤ أمير «النصرة» فيه أبو صياح الفراوي معها، (أعلن لاحقاً مبايعتَه للبغدادي) بالتزامن مع مهاجمته من مواقعها في الحجر الأسود.
«حزب الله»: معركة حماية دمشق
داخلَ تفكير النظام السوري وحلفائه وعلى رأسِهم «حزب الله»، تضمّ سلّة الأهداف الرئيسة لمعركة القلمون، هدفَ حماية دمشق. في تقدير الحزب أنّه لا يمكن الذهاب لمعركة استرجاع الغوطة الشرقية من دون حسم معركة القلمون أوّلاً، وذلك لأسباب تتّصل بالترابط الجغرافي الاستراتيجي بين المنطقتين.
ولم يعُد خافياً بالنسبة لمتابعي خريطة المعارك في سوريا أنّ هدفَ النظام والحزب بعد القلمون هو التوَجّه للغوطة الشرقية للسيطرة عليها بهدف تأمين مجال حماية أوسع لدمشق. وهذا السبب هو الذي يجعل رزنامة وقت الانتهاء من الحسم في القلمون ضيّقة. ويُصبح الوقت ملِحّاً أكثر بعد اتّضاح نوايا «النصرة» و»داعش» بأنّهما يتَسابقان على فتح معركة دمشق.
وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّ معركة تأمين دمشق تضغَط أيضاً على النظام السوري، وذلك انطلاقاً من اعتبارٍ أساس يفيد بأنّ النظام يفكّر بشَنّ هجوم مضاد يتناسب مع هدف أساسي لديه وهو تجميع قوّاته لمواجهة العجز العدَدي بين جيشه وجيوش المسلّحين الوفيرة العدد.
ويقوده هذا المنطق لتحديد المناطق التي يجب استرجاعُها وفق قيمتِها السياسية. وتأتي منطقتا الغوطة الشرقية ومخيّم اليرموك مع امتداده «الحجر الأسود» على رأس هذه المناطق، كون استرجاعها يؤمّن حزامَ حماية لدمشق. ويضاف إليهما منطقة جسر الشغور في الشمال.
وجوهر الفكرة هنا، أنّه في حال أمكنَ استرجاع المناطق الآنفة، يكون النظام قد أعاد خريطة الحرب نسبيّاً إلى مربّعِها الأوّل الذي سبقَ الانهيارات الأخيرة، أي أعادَ المعارضة المسلّحة إلى إدلِب ودرعا، فيما أمّنَ للعاصمة حزامَ أمانٍ قطرُه 40 كلم، ويقال إنّ مسافة حزام دمشق هذه اعتبرَها وزيرا الخارجية الاميركية والروسية في إطار تقاربهما الأخير، ضرورية ليستطيع النظام التفاوُض مِن موقع معقول!