Site icon IMLebanon

من حِرفة يدوية إلى صناعة ميكانيكية… هكذا تطوّر الوجاق

 

لا يخلو بيت جبلي من وهج ناره ولا تمر شتوية من دون دفئه. حاضر في قصص الجدات ولمّة العائلات وفي جلسات العاشقين وسهرات الأصدقاء في ليالي الشتاء الطويلة. إنه “الوجاق” فاكهة الشتاء التي تعطي لفصل البرد والأمطار نكهة الدفء وتحول ايامه ولياليه الى مساحة من الأمان والحنين. يعود في كل شتاء ليوقد تقاليد قروية عرفها الجبل اللبناني منذ بدايات القرن العشرين وما حاد عنها موسماً، واليوم وفي عز أزمة الكورونا وعودة اللبنانيين الى قراهم يعود “الوجاق” الى عزه أكثر من اي وقت مضى.

 

الوجاق، الصوبيا، الستوف أسماء متعددة لمدفأة الشتاء التي تتربع بلا منازع وسط غرف الشتاء في البيوت الجبلية لتتمحور حولها حياة البيت وأهله. قبل أن تطرق زخات المطر نوافذ البيوت ينهمك أهل القرى الجبلية في تركيب الوجاق وتنظيف قساطله وإمداداته ليكون جاهزاً مستعداً لاحتضان العائلة من حوله. يخزّنون المازوت أو الحطب وينتظرون اول ايام البرد لتدفئ ناره بيوتهم.

 

لم يتغير الوجاق كثيراً على مر الأيام ولم يتبدل ثوبه الأسود لكن العالمين بأموره يعرفون جيداً انه مر بمراحل عديدة وخضع لتغييرات تقنية في صناعته نقلته من مصاف الحرفة اليدوية الى صناعة ميكانيكية لها أربابها ومحترفوها. للتعرف على خفايا صناعة الوجاق وتطورها عبر السنين كان لا بد ان ننتقل الى المنطقة الصناعية في مدينة عاليه لندخل الى واحد من أقدم واعرق مصانع الوجاق فيها الى شركة مرعي للمدافئ والإنشاءات الحديدية. هناك لفحتنا حرارة لذيذة ما إن دخلنا صالة العرض مصدرها وجاق عصري معدني متكئ على الجدار وفي نظرة الى الجهة الأخرى بدا وكأننا انتقلنا بالزمن الى زمن آخر مع مجموعة من الوجاقات التقليدية السوداء تنتظر الانتقال الى بيوت ناس الجبل.

 

عديدة هي المناطق اللبنانية التي أشتهرت بصناعة الوجاق منذ القرن الماضي لكن مدينة عاليه اشهرها. راشيا، مرجعيون، بحمدون، من أولى المناطق التي عرفت صناعة الوجاق وكان الوجاق البحمدوني معروفاً في كل الجبل. أما الهرمل وضهرالعين الشمالية فمن المناطق المستجدة نسبياً في هذه الصناعة. تاريخ دخول الوجاق الى لبنان ليس محدداً ويقال أن أساسه فرنسي وكان وقتها يعرف باسم القاطرجي، هو وجاق حطب قديم مصنوع من الـ”فونت” وبعدها صار معلمو الصنعة اللبنانيون ينقلون عن القاطرجي ويصنّعون الوجاق بطرق بدائية. اما في عاليه فيعود تاريخ صناعة الوجاقات الى سبعين سنة واكثر وقد اشتهرت عائلات مرعي وضو وزحلان بصناعته وجعلوا عاليه عروس الوجاقات كما هي عروس المصايف ومركزاً رئيسيأ لهذه الصناعة.

 

ويخبرنا الشيخ بسام مرعي أن الوجاق القديم كان يعتمد على التبشيم أي بدون تلحيم وكان تقطيعه يتم يدوياً وانتقل بعدها الى التلحيم والخراطة. وظل الوجاق على حاله، يقول، لما يقارب الخمسين عاماً من دون إدخال إية تعديلات عليه إلى أن قمنا بتطويره وحولناه الى صناعة حملت الكثير من التعديلات والتحسينات ووصلت حتى الى العالمية وقد حصلنا على ثلاث براءات اختراع في هذا المجال بعد ان قمنا بتطوير المصلحة وتحديثها منذ 35 عاماً. الوجاق القديم كان يستهلك كمية كبيرة من المازوت بسبب حديده السميك لكننا قمنا بتعديله حتى ينخفض مصروفه حتى 20%، كما اعتمدنا على تقنيات جديدة في تصنيعه ميكانيكياً حيث صار يعتمد على القص والكبس والتطعيج ما ساهم في تحسين شكله وأدائه وأدخلنا عليه قياسات مختلفة بعدما كان مقاسه واحداً، كما قمنا بتطوير شكله وأدخلنا بعض الزخارف عليه ليصبح أكثر انسجاماً مع ديكور المنزل. كلمة وجاق تعني بالتركية موقد وهو معروف في تركيا كما في دول أوروبا الشرقية ولا يزال منتشراً في هذه البلدان. معظم أنواع الوجاقات تعمل على المازوت وبعضها على الحطب او الغاز. في لبنان وجاق المازوت هو المفضل في المناطق الجبلية. من هنا نسأل الشيخ بسام مرعي كيف يتعامل أهالي الجبال مع النقص في مادة المازوت والتقنين في بيعها فيجيبنا بأن الناس في الجبال قد خزنوا المازوت في وقت سابق، فهذه سلعة حيوية في الجبال ولا يمكن التهاون بها. وفي حديث سابق للنائب المستقيل مروان حمادة الى نداء الوطن كان قد أكّد لنا أنه يمضي الجزء الأكبر من وقته حالياً في محاولة تأمين المازوت للعائلات المحتاجة من اهل الجبل والسعي لإبقاء هذه المادة الحيوية متوافرة في الاسواق. بعض من يملكون كميات من الحطب يفضلون بالطبع الوجاق الذي يعمل على هذه المادة وقد يميلون ايضاً الى الـCheminee التي يتم تصنيعها في مصانع الوجاق بتقنية حديثة مع مروحة الهواء الساخن والفرن المدمج معها والتي يبقى لمظهر النار فيها رهجته ورهبته.

 

الوجاق بين جيلين

 

والحداثة باتت تطال الكثير من أشكال الوجاق. ويخبرنا الشيخ بسام مرعي انهم قاموا بتطوير نوع من الوجاقات وأضافوا اليه آلية تشغيل متطورة وحراقاً وأنظمة تحكم إلكترونية وسمات أمان وريموت كونترول بحيث اكتسب قدرة عالية على تدفئة ثابتة للمساحات الواسعة بمصروف مازوت مقبول جداً. وقد تمكنت مصانع مرعي بهذا الإنجاز من منافسة الصناعة الكورية وتقديم هذا الوجاق المتطور بأسعار تنافسية. والجدير ذكره ان هذا الإنجاز التقني تطلب تضافر قوى بين جيلين، إذ الى تمرس الوالد في صناعة الوجاقات التقليدية اضاف الابن المتخصص في الهندسة الالكترونية لمسة علمية متقدمة ما ساهم في خلق وجاق عصري يمكن ان يحل محل الشوفاج في المنازل الجبلية، ومن حسناته انه يوضع على الجدار فلا يحتل مساحة واسعة في الغرفة كالوجاق التقليدي الذي يوضع في وسط المساحة وهو متوافر بعدة مقاسات تتيح تدفئة مساحات مختلفة.

 

وفيما كنا نجول على المصنع التقينا السيد نيبال نصر وزوجته وهما قد أمضيا 20 سنة في المملكة العربية السعودية و 14 عاماً في الولايات المتحدة ثم عادا الى لبنان ليستقرا في بحمدون ويستعيدا تقاليد عرفاها قبل تغرّبهما لوقت طويل. سألنا السيد نصر لماذا الإصرار على اقتناء وجاق في حين انهما معتادان على التدفئة المركزية او الشوفاج؟ فكان الجواب انه لا يمكن لبيت جبلي ان يمضي الشتاء بلا وجاق، فكيف تطيب منقوشة الصباح من دونه او تفوح نفحات البطاطا المشوية من غير ناره؟ الشومينه موجودة في البيت وكذلك الوجاق التقليدي الصغير في غرفة الشتاء لكنهم بحاجة الى جهاز قادر على تدفئة مساحة الصالون الكبيرة وكثر نصحوهم بالتوجه الى عاليه والى مصانع مرعي بالذات للتعرف على تقنية جديدة للوجاقات تؤمن تدفئة سريعة وآمنة لمساحة كبيرة بأسعار اقل بكثير من البضاعة الصينية او الكورية.

 

ويبقى السؤال الأهم في غمرة هذه الأزمة الاقتصادية هل لا تزال اسعار الوجاقات في متناول العائلات اللبنانية؟ يجيب الشيخ مرعي ان أسعار الحديد والمواد الأولية ارتفعت كلها والتجار يعانون صعوبة في الإستيراد، لكننا نسعى الى كسر أرباحنا للحفاظ على سعر مقبول يكون في متناول الناس. لقد كانت الأسعار أغلى في السابق بنسبة 15% ولكن كان لا بد من تخفيضها في هذا الموسم الذي بدا صعباً منذ بدايته. و تبدأ الأسعار من 65$ وصعوداً والطلب لا يزال موجوداً لا سيما مع تمضية الكثيرين للشتوية في القرى الجبلية بسبب الحجر المنزلي وإجراءات التعبئة نتيجة كورونا، لكن كثراً غير قادرين على شراء الوجاقات الجديدة.

 

من محاسن الكورونا عودة المنقوشة الى البيوت

 

حتى صناعة الوجاقات استفادت من الحجر المنزلي إثر جائحة كورونا. فالناس الذين لزموا بيوتهم وهجروا المطاعم باتوا يفتشون عن تسلية منزلية وطعام صحي شهي، من هنا طرأت فكرة تطوير فرن منزلي مزود بأحدث التقنيات شبيه بفرن الحطب التقليدي ويمكن الدمج فيه بين الغاز والحطب مع أرضية حجرية تتيح الحصول على النتائج ذاتها كاشهر أفران المنقوشة او البيتزا في البلد. ويقول الشيخ بسام مرعي ان الطلب على هذا الفرن المتطور العملي، العصري بشكله والوانه قد ازداد بشكل كبير مع الحجر إذ يمكن استخدامه في حدائق البيوت وشرفات الشقق لتأمين اشهى المعجنات بطريقة آمنة وعملية. وقد بدأ تصدير هذه الأفران الى الخارج لما تتميز به من صفات تجعلها مرغوبة في مختلف البلدان.

 

بعد جولتنا في عالم الوجاقات لم يعد أمامنا إلا انتظار رائحة البطاطا المشوية أو منقوشة الكشك حتى يكتمل مشهد الدفء و” الكنكنة”.