ظاهرةٌ قديمة – متجدّدة أفرزَتها التحضيرات الانتخابية: هناك مقاعد نيابية في بعض الدوائر خرجت تماماً من أيدي المرشحين من أبنائها وبات محسوماً أنّها ستكون لمرشّحين وافدين إليها من دوائر أخرى. فهل يجب أن يسمح قانون الانتخاب بأن يكون النائب عن دائرة معيّنة، من خارج هذه الدائرة؟
يقود العميد شامل روكز لائحة «التيار الوطني الحرّ» في كسروان، وهو من بلدة تنورين قضاء البترون. لكنّ «التيار»، في الوقت عينِه، عاتِبٌ على حليفه الشيعي «حزب الله» لأنه جاء بمرشح شيعي في جبيل من الهرمل. وإذ يخوض «التيار» حملةً شعواء لإقناع الناخبين في كسروان – جبيل بعدم التصويت لـ«الغْريب»، يردّ «حزب الله» بالتذكير بأنّ آل زعيتر نزحوا من أفقا الجبيلية إلى الهرمل!
إذاً، هناك تناقض في موقف «التيار» من هذه المسألة. وربّما يعتقد العونيون أنّ الدائرة ذات غالبية مارونية، وأنّها الدائرة التي منها جاء رئيس الجمهورية، وأنّ على الحليف أن يراعي خصوصيات حليفه. لكن ما لا يستطيع «التيار» تبريرَه هو: لماذا لا تكون لائحته بقيادة ماروني من كسروان أو جبيل؟
وفي أيّ حال، الرئيس ميشال عون نفسه لم يكن من هذه الدائرة، بل جاء إليها من قضاء بعبدا. فهل يحقّ لمرشح «التيار» الآتي من البترون أن يعترض على سواه؟
في هذه المسألة، لا أحد أفضل من أحد. فعلى المستوى الشيعي أيضاً، رشّحت حركة «أمل» محمد نصرالله عن دائرة البقاع الغربي – راشيا، وهو من السكسكية، قضاء الزهراني. كما أنّ المقعد الشيعي في زحلة، عن تيار «المستقبل» يَشغله اليوم النائب عقاب صقر، وهو مِن الشياح.
كما تدعم النائبة بهية الحريري، عن المقعد الكاثوليكي في جزين، المرشّح وليد مزهر، وهو من بقسطا، قضاء الزهراني، لا مِن قضاء جزين. وأساساً بقيَ يَشغل المقعد الكاثوليكي في جزين، لعقودٍ طويلة، قبل «اتفاق الطائف»، نوّابٌ من خارج القضاء كانوا لا يجدون مكاناً لهم في دوائرهم أحياناً.
وكذلك، في دائرة طرابلس، لم يشغل المقعد الماروني منذ العام 1992 أيٌّ من أبناء المدينة. فعلى التوالي، كان النواب جان عبيد (قضاء زغرتا – الزاوية)، الياس عطاالله (قضاء الشوف) وسامر سعادة (قضاء البترون).
واليوم، تكتمل اللوائح. ولم يتمكّن أيّ مِن المرشحين الموارنة الطرابلسيين، من دخول المعركة. وترشَّح عن هذا المقعد:
جان عبيد (من علما، زغرتا) على لائحة الرئيس نجيب ميقاتي، جورج بكاسيني (من البترون) على لائحة الرئيس سعد الحريري، حليم الزعني (من البترون أيضاً) على لائحة الوزير السابق أشرف ريفي، أنطوان خليفة (من عمشيت – جبيل) على لائحة النائب مصباح الأحدب وكارلوس نفاع (من عكار) على لائحة حزب «سبعة».
وأمّا في بيروت الثانية، فالمرشح عن المقعد الدرزي في لائحة «المستقبل» ليس من دروز العاصمة، بل هو فيصل الصايغ ابن صوفر – قضاء عاليه، وبالتنسيق مع النائب وليد جنبلاط. وحسَناً فعَل الرئيس رفيق الحريري بنقلِ قيوده من صيدا إلى العاصمة، ليتمكّنَ من قيادة لوائحها الانتخابية، وكذلك نجله الرئيس سعد الحريري مِن بعده.
ومعلوم أنّ الحريري الأب كان «يستضيف» على لائحته مرشّحين من خارج بيروت عن المقعدين الشيعي والدرزي، وبالتنسيق مع «حزب الله»- «أمل» أو جنبلاط، ومنهم ناصر قنديل.
في الملاحظة، يتبيّن أنّ القوى السياسية النافذة تتسابق على احتلال المقاعد «المستضعفة» في بعض الدوائر، إمّا لتوسيع كتلها النيابية، وإمّا لأنّ المقاعد المستهدفة لها رمزيات سياسية معيّنة.
وبالتأكيد، لو لم يكن أركان السلطة مستفيدين من ظاهرة المرشّحين من خارج الدائرة، لانفجرَت الأزمة في ظلّ قوانين الانتخاب السابقة. لكنّ هؤلاء يريدون أن يحتفظوا لأنفسهم بمقاعد نيابية في كثير من الدوائر، ليتقاسموها وفقاً للحاجات والمصالح.
في النصّ، لا يَمنع الدستور أن يترشَّح مواطنٌ خارج الدائرة الانتخابية التي وُلِد فيها أو تلك التي يسجِّل فيها قيوده الشخصية. لكنّ روح الدستور تمنَع ذلك بوضوح.
فقد نصَّت المادة 24 على أنّ المقاعد النيابية تُوزَّع بالتساوي بين المسيحيين والمسلمين، ونسبياً بين طوائف كلّ من الفئتين، ولكن أيضاً نسبياً بين المناطق التي لها خصوصياتها، ويحقّ لمكوّناتها أن تشارك في الحياة السياسية والقرار الوطني والتشريع في شكلٍ متساوٍ.
بالنسبة إلى انتخابات 6 أيار، فاتَ القطار. فالمرشّحون تقدّموا بترشيحاتهم رسمياً في دوائر محدّدة، ولم تبقَ سوى ساعات لانتهاء المهلة المخصّصة لتسجيل اللوائح. واليوم، باتت المطالبة عبثية بالتزامِ روح الدستور لجهة مراعاة خصوصية الدوائر وحصرِ الاقتراع بالمرشحين من أبنائها.
والمرشحون المنبثقون من بيئاتهم الاجتماعية في طرابلس وكسروان وجبيل وسائر الدوائر، والذين خَذلتهم هذه الثغرة في قانون الانتخاب، عليهم انتظار فرصة أخرى، علماً أنّ هذا الخلل كان موجوداً في قانون 1960 أيضاً، ولم يتمّ إصلاحه في القانون النسبي – التفضيلي.
ويقول باحثون حقوقيّون معنيّون بالملف الانتخابي: أساساً، هناك ثغرات كثيرة تعتري قانون الانتخابات الحالي، ولا بدّ من معالجتها في ورشةٍ يَجدر إطلاقها بعد 6 أيار مباشرةً، لتكون هناك فرصة أربع سنوات، لعلّها تكفي الطاقمَ السياسي لإنتاج قانون انتخابات «غير مسلوق» وأكثر عدالة.
ومِن أبرز الثغرات التي تجدر معالجتُها حصرُ عمليات الترشُّح، تماماً كما عمليات الاقتراع، في الدوائر التي يُسجِّل فيها المرشَّح قيودَه الشخصية، وأن يكونَ قد مضى على هذا التسجيل مدّة كافية، بحيث لا يكون مفتعَلاً ولأهداف انتخابية.
وهذا التعديل سيكون من المؤشّرات إلى جدّيةِ ذوي السلطة في إنتاج قانون انتخاب إصلاحي ويتوخّى صحّة التمثيل وعدالته. ولكن، يقول المطّلعون: «بعد التجارب المريرة… الأمل بالله وحده»!