كلّ ما كان يُقال عن وجود «بيئة جذّابة» للتنظيمات الإرهابيّة في لبنان، شوهد بالعين المجرّدة في 2 آب الماضي في عرسال، وما تلاها. صار لـ«داعش» وأخواتها عناصر لبنانيّة تعلن انشقاقها عن الجيش اللبناني وتنضمّ إليها، وتذبح الشهيدين علي السيّد وعباس مدلج، وتقاتل الجيش في أكثر من مكان، وتؤمن ببناء «الدولة الإسلاميّة».
لم يعد زياد الجرّاح وحيداً، بل أضحى له كثير من «الاخوة في الدين». من أحمد الأسير إلى سراج الدين زريقات وصولاً إلى أبو هريرة الميقاتي.. وغيرهم كثر.
وبالرغم من ذلك، لا يبدو أن تيار «المستقبل» قادرٌ على تقبّل هذه الحقائق. قد يصبح لـ«داعش» في السنوات المقبلة كتلة نيابيّة تنافس نواب الرئيس سعد الحريري في شارعه.. و«الزرق» ما زالوا يتلطّون خلف إصبعهم!
لم يقفل الحريري الباب على نوابه بعد، ليقول لهم: «هاتوا ما عندكم لنواجه داعش». يكتفي بأن يردّد في كلّ تصريح وخطاب: «داعش إرهابيّة.. الشارع السني لا يريد التطرّف.. نحن نؤمن بالدولة ومؤسساتها..».
ربّما لم تصل إلى مسامع الرئيس، الذي زار بيروت لأيامٍ معدودات، كلام نائبه جمال الجرّاح الذي وصف «داعش» و«النصرة» بأنهما من «فصائل الثورة السوريّة»، تماماً كما لا تصل إلى بريده الالكتروني حركة بورصة التطرّف. لا «يهزّ أكتافه» ليلجم نوّابه الذين يهاجمون الجيش فوق الطاولة وتحتها.
كثيرون كانوا ينتظرون من «دولته» أن يقوم بإجراءات صارمة بحق النائب خالد ضاهر الذي قذف كلّ أحقاده على الجيش وهوّل بـ«الثورة السنيّة» منذ يومين. لم يحرّك الحريري ساكناً، كلّ ما فعله أنه أوكل إلى نائبه في «التيار» أحمد الحريري أن يقول عبر «تويتر»: كلام ضاهر لا يمثّلنا. وكأن «الإخونجي» السابق ونائب عكّار هو في كتلة أخرى غير «المستقبل»، التي يواظب على حضور اجتماعاتها الأسبوعية.
حتى الساعة، لم يدرك الحريري بأن «الكلام المعسول» لن ينتج عسلاً، وأن تياره بحاجة إلى رصّ الصفوف والموقف، وكبح جماح «شعراء الغزل» بالمتطرفين. الجميع يعلم أن «التيار الأزرق» بحاجة إلى خطاب مغاير لـ«تيار المستضعفين السنّة» والثأر من «حزب الله»، بغية مواجهة الجماعات الإرهابيّة التي تقاتل الجيش وتحتجز عناصره باستراتيجيّة واضحة وفعّالة على الأرض.
«أفلاطونيّة» رئيس «التيار الأزرق» تنسحب أيضاً على نوابه المعتدلين. المعادلة بالنسبة لهؤلاء بسيطة: «الغالبيّة الساحقة من الشارع السنيّ ترفض التطرّف لأنه خطر يأكل الأخضر واليابس، ولكن هناك مجموعات إرهابيّة صغيرة ومحصورة قد تستطيع إلحاق الخراب بالبلد بأكمله».
هذه المعادلة يبسّطها أحد «مستقبليي» الشمال بالأرقام: سكّان طرابلس هم نصف مليون، 499 ألف منهم يرفضون التطرّف، ولم يتبقَّ سوى 0,1 بالمئة متأثرين بداعش وأخواتها».
إذاً، طرابلس التي تتحدّث تقارير أمنية، محليّة ودوليّة، عن أن بعض أزقتها تحوّلت إلى ملجأ للمتطرفين الذين يطلقون النار مرّة على مواطن علوي وثانية على شيعي وأخرى على شاب مخمور، وأنها من «الأراضي المرشّحة» لبسط سيطرة «الخلافة» عليها»، ليست في نظر «المستقبل» إلا مدينة فيها مجموعة صغيرة من المتطرفين إلى حدّ أنها تشاهد عبر منظار مكبّر.. ولا ينقص إلا أن يردد «الزرق» أيضاً أن «الفيحاء» مدينة مخصصة للسائحين الأجانب وتقع في بلاد نائية وأن هناك مخططاً توجيهياً لتصير قريباً «المدينة الفاضلة»!
يلمس «المستقبليّون» خطر التطرّف على لبنان ولا ينكرون وجوده، غير أنهم يتصرفون كما لو أنهم يضعون أيديهم في مياه باردة. لا استراتيجية واضحة للبناء عليها، ولا نية حتى للعمل عليها في القريب العاجل.
الخوض في غمار «داعش» يعني انتقال قياديي «التيّار» حكماً إلى مربّع «حزب الله». قد لا يكون قصدهم تبرير التطرّف بالتأكيد، ولكن كلامهم يدلّ على ذلك، تماماً كالبدء بالترويج لنظريّة «داعش» كـ«حزب الله»، ونظريات التبرير بقولهم «إنّ أحد أسباب الجنوح إلى التطرّف هو حزب الله».
فعلياً يريد «التيار الأزرق» محاربة «داعش» و«حزب الله» بنفس السلاح وعلى الجبهة ذاتها وفي وقت واحد!
بالنسبة لهؤلاء، إن «حزب الله» هو القادر على مواجهة خطر «داعش» في الشارع السنيّ. قد تكون هذه المقولة مبالغ فيها، غير أن «المستقبليين» يؤمنون بها إلى حدّ أنهم يعتبرون أن «خروج حزب الله من سوريا يعيد الاعتدال إلى الشارع السني وهو سلاح ناجح لمحاربة داعش».
لا يعير «المستقبليون» اهتماماً بأن «داعش» صارت تتغلغل في الكثير من المناطق، ربّما لا يتابعون المداهمات التي يقوم بها الجيش. جلّ ما يعنيهم هو أن يغيّر «حزب الله» خطابه التخويني المباشر وغير المباشر «لأن الطائفة السنيّة ضافت ذرعاً بخطابه وممارساته».
تنتهي القصّة على ألسنة هؤلاء بالقول: «ليس باليد حيلة، وعلى الحزب أن يساعدنا على اجتراح الحلول، فالمستقبل يحارب أصلاً التطرّف بالاعتدال». يعتقدون أنهم بذلوا «الغالي والنفيس» في سبيل المواجهة. كيف؟ يعتبر «المستقبليّون» أنّ خطابهم، ولا سيّما خطاب الحريري الذي يؤكّد دائماً أنّه ضدّ التطرّف، هو أقصى ما يمكن بذله، فيما الباقي عند «حزب الله» الذي يجب أن يخرج من «لعبة المحاور».
يسألون: «نحن قدّمنا مبادرة للحوار لم تلقَ آذاناً صاغية»، مشيرين إلى أنّ هذه المبادرة (الرئاسيّة) كانت تسمح بأن نجلس معاً، فالصورة كافية لتخفيف الاحتقان». ويلفتون الانتباه إلى أنّ «الحزب قام حتى بعدم احترام ميثاق الشرف الإعلامي الذي عملنا عليه وكنّا نؤكّد أنه جزء من إراحة الأجواء الطائفيّة».
إذن، بلغة الحريري، الذي يقطن خلف الحدود، يعتقد «المستقبليون» أنهم يواجهون «داعش» وإن كانت هذه المواجهة من دون أسنان بلا «حزب الله». أمّا لماذا لا يقوم الحريري بمبادرة «أوفر دوز» من خلال جلوسه مع الأمين لـ«حزب الله»؟ لا إجابة من نواب «التيار»، إذ أن الإجابة في مكان آخر: إلى الرياض درّ!