Site icon IMLebanon

«رصاص طائش»

لا يكفّ اللبنانيون «الطائشون» وما أكثرهم، عن إطلاق الرصاص في كل المناسبات، في الجنازات كما في الأعراس والأعياد… حتى عندما يلقي بعض زعمائهم خطباً نارية يطلقون الرصاص مبتهجين بما يعدونه انتصاراً. ولا يبالي هؤلاء «الطائشون» بالضحايا الأبرياء الذين يسقطون قتلى وجرحى جراء إطلاق هذا الرصاص المجرم وكأنهم من الأعداء وليسوا إخوة لهم في هذا الوطن. والمستهجن أن هؤلاء لا يرعوون ولا يرتدعون بل يصرون على ممارسة هوايتهم القاتلة.

منذ أيام يقوم المخرج السينمائي اللبناني فيليب عرقتنجي بحملة عبر الفايسبوك وسائر المواقع الإلكترونية ضد الإطلاق العشوائي للرصاص في لبنان، بعدما اخترقت رصاصة طائشة زجاج النافذة في بيته وكادت تصيب ابنه الذي نجا بأعجوبة. نشر المخرج المعروف الذي خاض غمار الحرب اللبنانية في فيلم مهم هو «تحت القصف» صورة الزجاج الذي اخترقته الرصاصة والخراب الذي أحدثته داخل الغرفة، وكتب نصاً يؤنب فيه «المجرم» ويدعو إلى مواجهة هذه الظاهرة البربرية التي ما زالت تسود لبنان. لم يمض يوم على بدء هذه الحملة التي لقيت ترحاباً لدى جمهور الإنترنت حتى سقطت شابة لبنانية تدعى أمال خشفة ضحية رصاصة طائشة أصابتها بينما كانت على شرفة منزلها في منطقة الطريق الجديدة – بيروت فأردتها… وقبلها سقطت شابة في زحلة تدعى سارة سليمان برصاصة طائشة ووزع أهلها غداة رحيلها وصية مؤثرة كانت كتبتها تدعو فيها إلى وهب أعضائها إلى من يحتاجها.

لا تُحصى أسماء ضحايا إطلاق الرصاص العشوائي في لبنان الذين يسقطون على شرفات منازلهم أو على الأرصفة وفي الساحات والمدارس… حتى الأمن العام اللبناني لا يملك أرقاماً في شأن هؤلاء الضحايا الذين يزدادون. أما مطلقو الرصاص فلا يُلاحقون إلا نادراً وكثيرون منهم ينتمون إلى أحزاب وفي مقدمها حزب الله الذي اضطر أمينه العام، بعد انتشار ظاهرة إطلاق الرصاص في جنازات التشييع، إلى تحريم إطلاق الرصاص في تصريح له، قائلاً إن هذا الرصاص يصيبه هو قبل أن يصيب الضحايا. وعلى رغم النداءات التي تطلق هنا وهناك وما يرافقها من حملات تهديد يقوم بها جهاز الأمن اللبناني يصر هواة إطلاق الرصاص على ممارسة هذا الفعل الإجرامي وبلا هوادة.

وليس مستهجناً أن تعم هذه الظاهرة الإجرامية كل المناطق اللبنانية، فهواة إطلاق الرصاص العشوائي ينتمون إلى كل الطوائف والمشارب، وجميعهم يلتقون حول هذه العادة التي تعد تقليداً شعبياً «عريقاً» يعود إلى ما قبل الحرب الأهلية . فإطلاق الرصاص يجب أن يرافق كل المناسبات وعلى اختلاف طبيعتها، حزناً أم فرحاً أم «نضالاً» سياسياً… لا تكتمل الأعراس أو الجنازات بلا إطلاق رصاص، العيارات النارية وحدها تهبها هالة وتزيدها أبهة وافتخاراً ووقاراً. وبعض هؤلاء الهواة لا يوفرون مناسبة تتيح لهم إطلاق الرصاص، وفي ليلة رأس السنة يخرج المحتفلون سلاحهم ويفتحون النار مبتهجين. ومرة أطلت امرأة على إحدى الشاشات تحمل رشاشاً وقالت: لا يحلو رأس السنة بلا إطلاق رصاص، «صوتو حلو».

وما يدعو إلى الاستغراب أن حراس بعض الزعماء السياسيين ومرافقيهم لا يتوانون في أحيان عن إطلاق النار من سلاحهم ابتهاجاً لا سيما إذا ألقى زعماؤهم هؤلاء خطباً حماسية ووطنية. وهذه العادة كانت راجت كثيراً في أوساط جمهور حزب الله خلال إلقاء أمينه العام خطبه الطنانة حتى أصدر حزب الله قراراً حازماً بمنع إطلاق الرصاص، فاستبدله المحازبون بالمفرقعات والأسهم النارية. وهذه يألفها كل اللبنانيين أصلاً ويستخدمونها في الأعياد والمناسبات، ووجدوا فيها بديلاً للسلاح. فالمهم أن يرتفع دوي البارود وتتردد أصوات المفرقعات في الهواء.

في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1949 كتب الأديب فؤاد سليمان مقالاً غاضباً في الصفحة الأولى في جريدة «النهار» حمل فيه بشدة على مطلقي الرصاص العشوائي متهماً إياهم بتحقير الرصاص الذي صنع أهم الثورات في التاريخ وحرر الأوطان والشعوب، وكتب: «يا رصاص ما أحقرك في لبنان. ما أرخص أغانيك. ما أرخصك يا رصاص بلادي. في بلادي تهان بطولة الرصاص». هذه العادة السيئة والقاتلة ليست جديدة، ولم تعممها الحرب الأهلية وما تبعها من حروب، بل هي عريقة في لبنان، ويروى كيف كان بعض الأجداد يقولون عن الرصاص عندما يطلقونه عشوائياً «صوتك حنون».

ظاهرة غريبة حقاً، ظاهرة إطلاق الرصاص العشوائي في لبنان. أي متعة يثير أزيزه في آذان هؤلاء «الطائشين»؟ بل أي لذة تعتري هؤلاء المجرمين في قتل الأبرياء عشوائياً؟