Site icon IMLebanon

تيّار لاديني يُولد في عالمنا العربي

هل يمكن القول إن تيّاراً لادينيّاً بل تيّاراتٍ لادينيّةً ثقافيّةً، وربما لاحقاً سياسيّة، تولد حالياً في العالمين العربي والمسلم ضد الأسلمة الأصوليّة السائدة ردّاً على الفحش العنفي والأخلاقي الذي تمادت به الحركات الأصوليّة؟

لا شك، كما تُنبِئ ردود الفعل المتواصلة على مجزرة باريس، أن المثقّفين العلمانيين والليبراليين العرب، بمن فيهم اليساريّون السابقون والحاليّون، “خرجوا” من هذه المجزرة أكثر نقداً للثقافة السياسيّة الإسلاميّة السائدة أو على الأقل أكثر تشكيكاً بها.

يساهم في “إعلان” هذا التيار النقدي اللاديني وجودُ جزءٍ مهمٍّ وواسعٍ من النخب العربية والمسلمة في الغرب، هاجر وبات يقيم في عواصم ومدن أوروبا وأميركا وأستراليا. وهي قارات وبلدان هي نفسها شهدت وتشهد أقصى التطرف الإسلامي الأصولي ولربما الآن آن الأوان لكي يقود المثقّفون المغتربون العرب والمسلمون فيها تيّاراً نقديّا شجاعاً ضد ليس فقط هذه التيارات بل الأهم ضد جذورها في النصوص والتفسيرات. لكن هذا التيار النقدي سيبقى قاصراً على المستوى الثقافي وبالتالي السياسي إذا لم تواكبْه شجاعات فردية ومؤسّساتية ثقافية في قلب عالمنا العربي والمسلم ضد الفحش العنفي واللاأخلاقي الذي بلغته التيارات الأصولية والنسبة العميقة من اختراقها لبنى مجتمعاتنا.

سمعتٌ وقرأتُ وشاهدتُ كتاباتٍ وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي الصحافتين الغربية وحتى العربية في الأيام القليلة الماضية ضد استخدام الدين المسلم في حياتنا العامة ما لم أقرأه وأسمعه وأشاهده حتى بعد مجازر 11 أيلول 2001. هذا يعني أن فارق السنوات الذي يزيد عن العشر بين الحدثين شهد على خطّين متوازيين: اتساع العنف الأصولي واتساع نقده النخبوي في آنٍ معاً. لذلك علينا أن نسأل فوراً أين “يقع” المستقبل من هذين الخطّين: هل هو في مزيد من العنف الإسلامي الأصولي أم في بدء انحساره لصالح جيل أكثر قدرة على نقد استخدام الدين نصوصاً وفتاوى؟

ظهرت آراء كثيرة منها حول بعض النصوص القرآنية ومنها حول تاريخ الثقافة والممارسة العنفيّين ومنها تحاليل لمواقف وتحاليل مستعادة. طبعاً لا يزال البون شاسعاً في مستوى الحرية بين العالمين العربي المسلم والعالم الغربي. لكن هذا البون ليس على اتجاه واحد. ففي باريس كان أحد أبرز الآراء هو رأي رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق دومينيك دي فيلبان الذي اعتبر أن الإرهاب الأصولي “هو المخلوق المشوّه الذي أنجبته السياسات الغربيّة”. وهذا رأي “جوّاني” من صاحب تجربة حكم في دولة كبيرة يعرف تماما أن الإسلام السياسي في تاريخنا الحديث عمل لصالح السياسات الغربية أكثر ممّا عمل ضدها منذ الخمسينات من القرن المنصرم ولا يزال.

من الآراء الملفتة أيضا تعليق في “النيويورك تايمز” في العدد الأول الذي أعقب المجزرة أن على فرنسا أن تعيد النظر بمقارباتها لمسألة الأصوليّين الإسلاميّين وأن ما حدث في باريس لا يمكن أن يحدث مثله في نيويورك لأن أي مجلّة أميركيّة لن تفعل ما فعلَته “شارلي إيبدو”. ولكن كاتب هذا المقال ينسى أن ما فعلَه التوحّش الأصولي في 11 أيلول هو أوسع وأعنف مما فعله قتلة الصحافيّين الباريسيّين ومحتجزو رهائن المطعم اليهودي.

في مرحلتها الراهنة لا تُنتج الأصوليّة دعاةً بقدر ما أصبحت تُنتج أوباشاً وقتَلَةً. كيف يمكن تسليم هؤلاء مقاليد مجتمعاتنا وهم حثالة هذه المجتمعات؟ إنها الفئة التي تتحمّل عقودٌ من سيطرة أنظمة استبداديّة على منطقتنا المسؤوليّةَ عن انحدار مستويات حياتهم وثقافتهم. ولكنْ هذا لا يعني الرضوخ لأنظمة التوحّش الأصولي وتسليمها قيادة ثورات مثل “الثورة” السوريّة… بل تسليمها “الثورة” نفسها دون مراجعة مطلوبة تصل حدّ إعلان نهايتها كثورة والبحث عن بديل تسووي يتطلّب علمانيّين شجعاناً ومسؤولين وليس مجرّد أدوات فرديّةً ضعيفة ومنصاعة وغير موجودة أصلاً على الأرض.

دعونا نَعُدْ إلى المستقبل: هل هي بداية نهاية الإسلام الأصولي بأشكاله المختلفة؟ سبق أن قيل هذا الرأي بأقلام آخرين منذ حوال عقدين. لكنْ أيّا يكنْ الجواب فالأكيد أن الدلائل تزداد، قبل مجزرة باريس وخصوصاً بعدها، أن تيّاراً لادينيّاً جدّياً يولد الآن في المحيط العربي والمسلم. ما هي قوة هذا التيّار وكيف سيعبِّر عن نفسه؟ هل التعبير سيكون علمانياً أم إلحاديّا أم، ولا داعي للتعجّب، دينيّاً؟

نعم يمكن أن يتّخذ التيار أشكالاً مختلفة بما فيها الشكل الديني لنزوع لاديني!