فجأة، انفجر الشارع دفعة واحدة، وعلى أكثر من جبهة. لعبة الشارع بدأت «زكزكة» للسلطة وصارت كابوسا لها. يكفي تنقّل «المتمرّدين» من وزارة الى أخرى، واللجوء الى الاضراب عن الطعام، و «ورشة» التعطيل المباغتة لـ «تعديات» حكومية على حقوق المواطنين، حتى تبدو السلطة الامنية للمرة الاولى أمام مشهد غير مألوف في التعاطي مع الشارع ورغباته.
رغم كل ما قيل ويقال في الغرف المغلقة وعلى المنابر بحق «أدوات» الحكومة، من قوى أمنية وجيش في مواجهة المتظاهرين، فإن كافة مراكز القرار، الامنية والسياسية، تخاف الغرق في وحول «الانتفاضة» الشعبية وصولا الى جرّها الى خندق المحاسبة الفردية او الجماعية.
قد يكون ذلك أحد أهم الانتصارات غير المباشرة لشارع فرض هيبته، للمرة الاولى، على السلطات الامنية، ودفعها الى ان تعيد حساباتها على ضوء حراك وجد مشروعية له حتى ضمن الطاقم السياسي الحاكم..
بموجب التحقيق المسلكي الذي اجرته المفتشية العامة في قوى الامن الداخلي تقرّر «تحويل ضابطين على المجلس التأديبي وستة عسكرين بعقوبة مسلكية لقيامهم بالتصرّف بشكل تلقائي من دون العودة الى رؤسائهم، وتوجيه تأنيب الى الضباط لتركهم وسائل اتصالهم في مكاتبهم».
اربع ملاحظات تفرض نفسها أمام واقعة من هذا النوع:
ـ انها المرة الاولى، منذ بدء مسلسل التظاهرات عام 2005، على اختلاف عناوينه، التي تضّطر فيها السلطات الامنية الى محاسبة عناصرها الامنية ممن انجرّوا او بادروا الى التصادم مع المتظاهرين والكشف العلني عن محاضر التحقيق.
ـ بموازاة التحقيق الذي فتحته قوى الامن في حادثة 22 آب، والاعلان المسبق لوزير الداخلية عن قيام ثلاث مجموعات هي: حرس مجلس النواب وسريّة الجيش المكلّفة بحماية مجلس النواب وعناصر من قوى الامن الداخلي، بإطلاق النار في الهواء، فإن قرار الداخلية ذهب نحو المحاسبة الفورية والعلنية في ما يخصّ قوى الامن. أما من جهة حرس مجلس النواب فلم يحصل اي تحقيق في الموضوع.
ـ تفيد المعلومات ان المفتش العام جوزف كلاس استدعى كافة ضباط شرطة بيروت المعنيين بالتظاهرة وفي مقدمهم العميد محمد الايوبي. بنتيجة التحقيقات تبيّن أن أيا من هؤلاء الضباط لم يعمد الى إطلاق النار في الهواء او التورّط بمخالفات بحق المتظاهرين، وبالتالي فإن التقرير الذي رفعه العميد كلاس الى وزير الداخلية جاء خاليا من اي مسؤوليات او اقتراحات بعقوبات مسلكية بحق اي ضابط في شرطة بيروت تاركا أمر اتخاذ الاجراءات المناسبة للوزير نفسه. وفيما كانت التساؤلات تطرح حول دور حرس مجلس النواب في إطلاق النار، فان العميد كلاس لم يتمكّن من استدعاء اي ضابط من حرس مجلس النواب، أقلّه للاستماع اليهم، مع العلم أنهم بالاساس خارج نطاق صلاحياته!
ـ بالنسبة للجيش، فإن القيادة من جهتها لم تبادر الى الاعلان عن حصول اي تحقيق عسكري بالحادثة، ولم تتّخذ اي إجراءات بهذا الشأن. ثمّة ضباط في السلك الامني يؤكدون بأن المحاسبة لم تحصل إلا على مستوى قوى الامن. لكن لليرزة روايتها «ترتبط قيادة الجيش بعلاقة لوجستية فقط (رواتب، ترقيات، عقوبات…) بسرية الجيش المكلّفة حماية مجلس النواب، فيما تتلقى الاخيرة الاوامر من رئاسة مجلس النواب، وبالتالي لا علاقة للقيادة بما حصل، وهي غير معنية بأي تحقيق».
يذكر ان القوى المكلّفة حماية مقرّ مجلس النواب هي: شرطة مجلس النواب عناصرها يتبعون مباشرة لرئيس مجلس النواب، ويقبضون معاشاتهم منه، وينالون ترقيات استنسابية بتوقيع منه. ومنهم من يرتدي البذة الرسمية لقوى الامن خارج مجلس النواب خلافا للقانون. باختصار هم حالة مستنسخة عن هيكيلية قوى الامن، لكنها خاضعة مباشرة لأوامر رئيس المجلس.
أما الفئة الثانية فهي سرية حرس مجلس النواب. عناصرها ينتمون رسميا الى قوى الامن الداخلي، وهي تابعة لجهاز أمن السفارات. يترأسها العميد عدنان الشيخ علي، ويشرف عليها اربعة ضباط برتبة نقيب هم علي حاموش، فادي الحر، روي فرحات، وربيع رزق. وفي حال حصول أوامر بإطلاق النار في 22 آب، فهذه الاوامر تكون قد صدرت حصرا عن العميد عدنان الشيخ علي.
بمطلق الاحوال، لا يعبّر هذا المشهد سوى عن عيّنة مما ينتظر غرف القرار الامني في مواجهتها لـ «غضب الشارع» غير المسبوق الذي يبدو حتى اللحظة متحرّرا من التبعية لقيادة واحدة او إدارة واحدة.
عمليا، منذ اللحظة التي اعلن فيها وزير الداخلية نهاد المشنوق عن رغبته بصدور قرار واضح من مجلس الوزراء في جلسته الاخيرة بتكليف الجيش مؤازرة القوى الامنية في مواكبتها لـ «تسونامي» الشارع كي لا تتحوّل وحدها الى ضحية لثورة الناقمين، لم يتغيّر الكثير في مشهد هذ الشارع.
الجيش اصلا يتصرّف من منطلق أنه قوة مؤازرة على الارض بموجب التكليف الصادر عن مجلس الوزراء في 15 كانون الثاني 1991 بتقديم الجيش المؤازرة الدائمة لقوى الامن الداخلي ولباقي الاجهزة الامنية. كل الفارق ظهر حين واجه الجيش عشرات العونيين في تظاهرة 9 تموز، فيما تراجع الجيش تماما الى الخطوط الخلفية في كافة محطات التظاهر للحراك المدني، وحتى تظاهرة «التيار الوطني الحر» في ساحة الشهداء في 12 آب.
اوساط عسكرية تشير في هذا السياق الى ان «ان الجيش تدخّل لمنع المتظاهرين العونيين من التقدّم باتجاه السرايا في 9 تموز بناء على طلب مباشر من القوى الامنية. ويوم الاحد في الثلاثين من آب، وبعدما بلغ الشغب مداه الاقصى بإحراق الدواليب وقطع الطرقات وتكسير إشارات السير والفوضى، تدخّل الجيش عند الساعة الحادية عشرة ليلا وتمّ توقيف المعتدين. أما في يوم وزارة البيئة فقد انتشر الجيش في المناطق المتاخمة، وكان مستعدا للتدخّل في حال توسّع إطار الشغب والاعتداءات، لكن لم يصدر أي طلب صريح بهذا الامر».
وتضيف الاوساط في هذا السياق «ان موقف القيادة واضح لجهة ان الجيش لا يقف على الحياد، بل هو معني بحماية كل التظاهرات السلمية ومنع أعمال الشغب والتعدي على الاملاك العامة والخاصة، وتحديدا في القضايا الوطنية فإن الجيش معني بشكل بحماية أمن البلد واستقراره، ولا مكان للحياد على أجندته».
وفيما لم يعرف بعد اسباب التقصير المخابراتي في توقّع حصول اقتحام لوزارة البيئة والاعتصام داخلها، فإن عناصر قوى الامن الداخلي التابعة لجهاز أمن السفارات هي المعنية عادة بتأمين الحماية الامنية للوزارات، وقد عمدت بعد نهار البيئة «الساخن» الى تعزيز الاجراءات الامنية أمام بعض الوزارات المعنية بالازمات القائمة، خصوصا ان المعطيات تشير الى إمكانية انتقال التحرّك من «جبهة النفايات» الى «جبهة الكهرباء»…
وفي مقابل الاحاديث المتزايدة عن خلافات وتباينات ضمن المجموعات التي انبثق عنها الحراك المدني، قد يراهن عليها البعض لتضعضع جبهة المتظاهرين مما قد ينعكس انحسارا في نبض الشارع وغليانه، إلا ان الحسابات الامنية لا تزال على استنفارها.
يترافق هذا الامر مع توقّع تزايد حجم المشاركين من «طلعت – ريحتكم» و «بدنا نحاسب»، وبقية التجمّعات الاخرى إضافة الى النقابات، في تظاهرة 9 أيلول مع ما تكتسب من دلالات رمزية بالتزامن مع انعقاد طاولة حوار وصفها بعض المنظمين كإبرة مخدّر ولّى عليها الزمن، وبالتالي بطل مفعولها، وأتت في غير مكانها وزمانها.
وما يدلّ على مؤشرات الاستنفار ارتفاع البوابات والسواتر الحديدية التي طوّقت السرايا ومجلس النواب منذ أيام، والتركيز على غرف العمليات المشتركة بين الجيش وقوى الامن الداخلي، وتعزيز الحماية الامنية أمام «الاهداف» المحتملة للمتظاهرين من وزارات ومؤسسات عامة…
صار الهمّ الاكبر، إضافة الى أمن التظاهرات، تأمين عبور هادئ للمشاركين في طاولة الحوار في 9 ايلول الى مجلس النواب، على ضوء تيقّن القوى الامنية والعسكرية بأن ثمّة من يرغب بجرّها الى المحظور عبر الصدام المكلف جدا مع المتظاهرين.