IMLebanon

حركة الشارع: تفتقد إلى الوضوح

يستشهد البعض بالعبارة الشهيرة للشهيد سمير قصير «عودوا إلى الشارع تعودون إلى الوضوح» من أجل التعبئة وتبرير خيار المشاركة في التظاهرات، فيما الحراك الحاصل يفتقد إلى هذا الوضوح بالذات. لماذا؟

لا أحد يمكن ان يقف ضد حركة مطلبية تعبّر عن معاناة اللبنانيين التي وصلت إلى حدّ لم يعد يُطاق. فإذا كانت الأزمة الوطنية عصيّة على الحل، فلا مبرّر لأن تكون كذلك أزمة الكهرباء، أو الماء وأخيراً النفايات التي طفح معها كَيل الناس. وكل ذلك يترافق مع أوضاع معيشية صعبة، وتراجع في القدرة الشرائية، وغياب الخدمات الأساسية، وتعقيدات الإدارة، ومنطق السمسرة والمحاصصة والمحسوبيات…

وإذا كان الوقوف إلى جانب حركة من هذا النوع واجب وضروري، فعلى هذه الحركة في المقابل أن تلتزم الأجندة المطلبية، وهذا الالتزام يتمّ عن طريق إمّا الضغط شعبياً لدفع الحكومة إلى تسريع التجاوب مع المطالب الشعبية المتصلة بجوانب حياتهم اليومية، وإمّا الضغط لإسقاط الحكومة في حال رفضها التجاوب مع مطالب الناس.

وبما أنّ الفراغ الرئاسي يجعل الضغط من أجل استقالة الحكومة مجازفة كبرى تُدخل لبنان في المجهول، فإنّ الضغط منطقياً يجب أن يتركّز على انتخاب رئيس جديد للجمهورية الذي يفتح باب التغيير أمام حكومة جديدة بأولويات مطلبية.

ويمكن ان ينصَبّ الضغط أيضاً، وهذا ضروري، من أجل تسريع إقرار قانون جديد للانتخابات النيابية في ظل مماطلة مقصودة وتسويف مستمر وتهرّب متواصل، تجنّباً لإقرار قانون يعكس صحة تمثيل المجموعات الطائفية، ويقدم فرصة حقيقية للفئات غير المنضوية في أحزاب وتيارات كبرى بغية الدخول إلى الندوة البرلمانية، وبالتالي تجديد الدم السياسي والروح السياسية.

فالهدف من الضغط المقصود، وهنا بيت القصيد، التغيير من داخل النظام، وتحسين شروط الحياة السياسية، وتلبية مطالب الناس وحاجاتها. وبالتالي، لو تمّ اعتماد هذا المسار أو هذه الآلية لَما وقفَ في مواجهة الحركة الشعبية سوى القوى المتضررة من التغيير والتي تخشى على مكاسبها السياسية ومصالحها المحاصصاتية، لأنّ هذا الجمود أو الاستِلشاء في عدم الاستجابة لتطلعات الناس الحياتية والسياسية أمر غير مقبول.

ولكن في الحقيقة الكثير من الشكوك والالتباسات رافقت عمل تلك المجموعات المدنية، أبرزها الآتي:

أولاً، هذا الحراك يقول عن نفسه إنه «مدني، سلمي، ديموقراطي وتغييري»، ولكن لا يوجد حراك يدّعي هذه الصفات ويخالف القوانين، حيث أنّ هذه المجموعة اقتحمت مرفقاً عامّاً، وليس هناك من قانون مدني وديموقراطي يتيح احتلال مرفق عام.

والمفارقة المُضحكة-المبكية أنهم قدّموا حجة واحدة على فِعلتهم وهي انّ وزارة البيئة ملك للشعب ومن حقهم احتلالها، ما يعني أنّ ما ينطبق على هذه الوزارة ينسحب على كل الوزارات والقصر الجمهوري ومجلسي النواب والوزراء، الأمر الذي لا يمكن تفسيره، ربطاً بهذا التوصيف، سوى انه ينمّ عن عمل انقلابي على المؤسسات الدستورية والرسمية، وذلك وفق منطوق القانون اللبناني.

ثانياً، كيف يدّعي هذا الحراك التوجّه السلمي وتقوم مجموعات منه بتعطيل عدادات الوقوف «البارك ميتر» في عين المريسة؟ وبالتالي، هل هذا الحراك هو سلمي أم تخريبي؟ والمؤسف أنّ محافظ بيروت القاضي زياد شبيب أمر بوَقف عدادات الـ»بارك ميتير» على طول الكورنيش البحري للمدينة في موقف يعدّ تنازلاً وتراجعاً وتسليماً بالأمر الواقع.

ثالثاً، كيف يدّعي هذا الحراك انه سلمي ويحاول اقتحام السراي الحكومي وضرب قوى الأمن بالحجارة واستعمال الزجاجات وبعض الأحيان «المولوتوف» لرَميها على العسكريين، حيث وَقع ما يقارب 150 جريحاً من قوى الامن حتى الآن؟

رابعاً، كيف يدّعي هذا الحراك انه سلمي وحضاري وهناك مدسوسون بين صفوفه يعملون على التخريب، فيما الأسوأ أنّ المواقف المعلنة لقادة هذا الحراك سجلت تراجعهم عن الاتهامات التي أطلقوها عن وجود مدسوسين، وتبريرهم لأفعالهم بحجّة أنهم من الشباب المحروم الذي يعاني تهميش الدولة وفشلها؟ وهناك تساؤل لماذا يفشل هذا الحراك في ضبط صفوفه، فيما نجحت 14 آذار التي تفوقه بمئات المرّات في ضبط صفوفها إبّان تظاهراتها في العام 2005 والسنوات التي تَلت ذاك العام؟

خامساً، كيف تدّعي هذه المجموعات الديموقراطية، مع انّ سقف الشعارات التي رفعتها يبدأ بإسقاط الحكومة ومجلس النواب والطبقة السياسية ولا ينتهي بإسقاط النظام؟

سادساً، إذا لم يكن هناك أيّ خلاف حول العناوين المطلبية، فالخلاف قائم حُكماً حيال العناوين السياسية، حيث أنّ حدود الاتفاق مع الحراك المدني تقِف عند حدود الأجندة المطلبية. وبالتالي، مجرّد دخولهم على الخط السياسي يعني تحوّلهم إلى فريق وفئة وجزء من الانقسام السياسي، وتأييدهم أو عدمه أصبح يرتبط بأجندتهم السياسية، لا المطلبية.

وانطلاقاً من النقطة الأخيرة لا أولوية تعلو على البُعد الوطني، لأنّ مطلق أيّ حراك مطلبي لن يحقق أهدافه الفعلية في غياب الدولة، فلا المحاسبة ممكنة في غياب هذه الدولة ولا المساءلة ولا مكافحة الفساد، لأن لا قضاء ولا مؤسسات ولا من يحزنون. وبالتالي، عبثاً رَفع عناوين فرعية، على أهميتها، طالما أنّ تحقيقها متعذّر في غياب الدولة التي تتمتع بكامل صلاحياتها الدستورية.

فالمعضلة الأساسية تتمثّل بتعطيل مؤسسات الدولة. والدولة التي لا تملك قرار الحرب والسلم ليست دولة. والدولة غير السيّدة على أرضها ليست دولة، فيما الشعارات التي يرفعها المتظاهرون لا تركّز على الدولة، ولا تعتبر نفسها معنية بالفوضى السياسية والدستورية القائمة، بل أولويتها إسقاط السلطة الحالية لاستبدالها بشخصيات يسارية ما زالت تعيش مرض الثورية الانقلابية. وقد أصابت القمة الروحية في الإشارة الى أنّ استخدام الشارع يمثّل خطورة بالغة.

وركّزت، شأنها شأن الدكتور سمير جعجع، على أولوية انتخاب رئيس الجمهورية الذي يشكّل المدخل لحلّ القضايا العالقة. وبالتالي، وفق الترتيب التسلسلي ينتخب المجلس النيابي الحالي فوراً الرئيس العتيد، ويُصار بعده إلى تأليف حكومة تعكف على وضع الأولويات الأساسية من معالجة القضايا المطلبية الساخنة إلى وضع قانون انتخابي جديد ودعوة لانتخابات نيابية.

وإذا أظهرَ هذا الحراك أيضاً على شيء، فعلى أنّ هذه الحركة غير محصّنة بما فيه الكفاية، ما يعني القدرة على توظيفها واستغلالها بسهولة بسبب عدم خبرتها وتناقضاتها وخلافاتها وانقسامها بين ساحتين، ولكلّ ساحة شعاراتها وأهدافها ومطالبها. ولكن السؤال: أين سيَصبّ هذا الحراك في النهاية ومن سيكون المستفيد منه؟ وهل سيمهّد الطريق لمشاريع تأسيسية تطيح اتفاق الطائف والصيغة اللبنانية؟

ويبقى انّ أكثر ما يفتقد إليه هذا الحراك هو الوضوح في الأهداف، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات على مصراعيه، كما الهواجس والمخاوف في ظل محاولة مكشوفة لضرب الهيبة الوحيدة المتبقية والمتمثّلة بالقوى الأمنية كمعبر لإسقاط النظام.