Site icon IMLebanon

أقوياء قلقون… فماذا نقول نحن؟

 

لا غرابة أن يتبرم الباريسيون. التذمر جزء ثابت من مزاجهم. إنه يوم السبت والاستمتاع بالعطلة. لكن الطقس يعاند. تطلُّ الشمس سريعاً كاللص ثم تخلي المكانَ للغيوم ودموعِها فيختبئ المواطنون والسياح تحت مظلاتهم. ومنذ شهور صار للسبت طعم آخر. «السترات الصفراء» تواصل احتجاجاتها رغم تراجع جاذبيتها. والحوار الذي أطلقه إيمانويل ماكرون أظهر أيضاً صعوبة إقناع الفرنسيين. وثمة من يعتقد أن فرنسا تعشق الجدالات لكنَّها لا تحب التغيير.

السيد الرئيس ليس في أفضل أحواله. سيف استطلاعات الرأي مسلطٌ على عنق ولايته وصورته. وفي قصر الإليزيه يستطيع أن يقرأ أن بعض الفرنسيين بدأوا بالترحم على آخر أسلافه، رغم أن مرورهم في حياة الجمهورية لم يكن لامعاً على الإطلاق.

تكشف النقاشات في وسائل الإعلام الفرنسية شعور قسم غير قليل من المواطنين أن بلادهم في مأزق.

ثمة من يرى أن العالم قد سبقها. وأن الآمال التي علقت على الرئيس الشاب تصطدم الآن بصخور الواقع. وهناك من يعتقد أن انقباض الفرنسيين يرجع إلى شعور قسم كبير منهم أن بلادهم تراوح مكانها أو تتراجع. وأن الدور الفرنسي في العالم ينحسر.

يصعبُ على فرنسا أن تكون شريكة فعلية لسيد البيت الأبيض الذي يحب الرقص منفرداً. أسلوبه لا يترك دوراً بارزاً للحليف الأوروبي. ثم إن المركب الأوروبي نفسه يترنح على نار الطلاق البريطاني وصعود الأصوات الشعبوية وتزايد العداء للمهاجرين، والاعتراف بأن سياسات الاندماج تزداد تعثراً. هناك من يعتقد أن قفز بريطانيا من السفينة الأوروبية سيوفر لفرنسا فرصة غير مسبوقة للقيادة، خصوصاً مع استعداد المستشارة الألمانية للمغادرة. لكن الخبراء يسارعون إلى التذكير أن فرنسا لا تملك اقتصاداً قادراً على حماية دور كبير. ويلفتون إلى حجم الاختراقات الصينية في أفريقيا وهي القارة التي كانت فرنسا اللاعب الأول في أجزاء واسعة منها.

أزمة الدور مطروحة بجدية في فرنسا. ستبقى الأولوية للخيار الأوروبي. لكن قدرة أوروبا على انتزاع موقع مميز في النادي الذي يفترض أن يضمها مع أميركا والصين وروسيا تبدو محدودة فعلاً بسبب الوهن الذي أصاب الروح الأوروبية.

يهرب المسافرون أحياناً من ثقل الوقت فيفتعلون حوارات عابرة مع زملائهم في الطائرات أو الفنادق. وأنا أحب هذا النوع من الحوارات بين الغرباء، خصوصاً أن هدفه الوحيد مقاومة الضجر ووطأة الانتظار. سألني السائح الياباني في النادي الرياضي عن سبب زيارتي إلى باريس فأجبت أنه موعد عمل. ابتسم وقال إن المدينة تستحق ما هو أكثر من ذلك. إنها تستحق زيارات متكررة لتَفقُّدِ هذه الثروة الثقافية الكبرى التي تراكمت في أرجائها. تواعدنا على استكمال الحديث لاحقاً.

في بهو الفندق غلبتني المهنة فرحت أسأله عن بلاده. أشاد بما حققته اليابان في العقود التي تلت كارثة الحرب وبإرادة هذا الشعب الذي خرج مثخناً من الهزيمة المرة. وخلتُ أنني عثرت على رجل متفائل ففرحت، إذ إن غالب من نحاورهم يبثون في كلامهم قدراً غير قليل من القلق. ولم يتأخر السيد المتحدث في الانضمام إلى نادي القلقين.

سألته عن بواعث القلق لديه. قال: «كيف تستطيع أن تطمئن حين يكون لديك جار من قماشة كيم جونغ أون يجد متعة غير عادية في بناء ترسانة نووية، ويشرف شخصياً على إنتاج أجيال جديدة من الصواريخ؟».

لم يتأخر السائح في البوح أن قلقه الحقيقي ناجم عن ولادة جار عملاق يصعب التكهن بحقيقة نواياه؛ وهو الصين التي قال إنها تتقدم كل يوم وكل ساعة. قال إن الصعود الصيني غير مسبوق في عصرنا الحاضر، وستكون له تداعيات كبيرة على ميزان القوى العالمي في الاقتصاد والأمن وتالياً في السياسة. وذكر أن اليابانيين يتابعون بشيء من القلق كيف أزاحتهم الصين من موقع الاقتصاد الثاني في العالم، وكيف تحثُّ الخطى لاحتلال الموقع الأول وحرمان أميركا من مفتاح قوتها وهيبتها. رأى أن الصين تملك اليوم فائضاً مذهلاً من القوة لا بدَّ من أن تضيق به خريطتها، وهو ما سيترجم ميلاً إلى الهيمنة؛ ليس فقط في محيطها المباشر، بل على مستوى العالم أيضاً. ولاحظ أن الهجوم الاقتصادي الصيني في آسيا وأفريقيا وأوروبا يترافق أيضاً مع زيادة في الإنفاق العسكري تنذر بتبديل موازين القوى العسكرية أيضاً.

قال إن ما يقلقه هو شعوره بغياب آليات قادرة على احتواء صعود قوة من هذا النوع. لم تعد أميركا قادرة على لعب دور الشرطي في العالم، وإن كانت الخيار الوحيد المتاح أمامنا للحفاظ على قدر من التوازن في مواجهة الصعود الصيني.

غادر السائح لتفقد ثروات باريس الثقافية، ورحت أفكر في الشرق الأوسط الرهيب. في الجيوش المتبرمة بحدود الخرائط وفي الميليشيات الجوالة بين مسارح النزاعات. في حروب الماضي وكراهيات التاريخ. في البطالة والفقر وملايين المقيمين في المخيمات.

هل كان الشرق الأوسط يعاني ما يعانيه لو عثرت إيران على دينغ إيراني يحلم بتحويلها قوة اقتصادية ومن دون الرهان على الإقامة داخل خرائط الآخرين؟ وهل كان الشرق الأوسط يعاني ما يعانيه لو ضبطت تركيا أحلامها داخل حدودها ولم تنخرط في مشروع لتغيير ملامح المنطقة؟ ألم يكن من الأفضل للمنطقة برمتها لو انشغلت إيران وتركيا بمشروع تحول وإصلاح يرمي إلى الانخراط في معركة التقدم؟ لن يتغير الشرق الأوسط ما لم تتقدم سياسة الجسور على سياسة الجدران. إن الدرس الصيني يستحق وقفة طويلة.