المهم جدا أن تتكون في المجتمعات دولة قوية تسير أمور الاقتصاد والحاجات الوطنية المختلفة. الدولة القوية هي الفاعلة والواعية وليس الجائرة والظالمة. الحدود بين الدولة القوية والضعيفة ليست كبيرة ومن الممكن الانتقال بسرعة من وضع لآخر. الدولة القوية هي التي تمنع الفوضى وتحمي الحريات المختلفة ضمن القوانين وعبر القضاء والوسائل الأمنية المشروعة. الدولة القوية هي التي تفرض القانون وتؤمن الخدمات العامة وتمنع الأعمال العنفية أي الشغب. لا يمكن حماية الحريات في دولة لا تقوم بواجباتها كاملة ولا تفرض سلطتها عبر المؤسسات والقوانين.
ترتكز حماية الحريات على وجود دولة قوية ومجتمع قوي يحميها. المجتمع القوي هو الذي يتابع سير الأمور بوعي وفهم ويمنع التسلط ويفرض على الجميع في الحكم والدولة احترام الشعب والقوانين والمؤسسات. الاعلام الواعي ضروري لنقل المعلومات والأخبار التي تسمح للشعب بالمتابعة. لا يمكن لمجتمع قوي أن يتكون من دون اعلام جدي عصري يعطي المواطن معلومات صحيحة دورية ومهمة.
لو تركت الأمور للرئيس ترامب وحده لبقي في الحكم لأكثر من أربع سنوات قادمة. حاول استعمال كل الوسائل للبقاء أي القانون والقضاء والتهديد السياسي والوظيفي، لكن المجتمع الأميركي مباشرة وعبر المؤسسات قال له انتهت اللعبة وخسرت عن حق. حتى القضاة الذين عينهم هو شخصيا رفضوا ادعاءاته وقالوا له أن المنافسة كانت صحيحة ولا بد من مغادرة البيت الأبيض في 20/1/2021. لم يكن ليحصل كل هذا لولا الضغط الشعبي العام بالرغم من وجود عدد لا يستهان به من المواطنين الذين يريدون قلب الطاولة والغاء النتيجة وابقاء الرئيس دون وجه حق. وعي المجتمع العام للتحديات والمخاطر هو أساس الحريات واحترام القوانين والمؤسسات.
الدولة القوية هي التي تؤمن هذه العلاقة الفاضلة بين المجتمع والسلطة احتراما للجميع. لو كان لنا في لبنان هذا النوع من الضغط الشعبي، لما سمحنا للحكام أيا كانوا بأن يأخذوا كل الوقت لتشكيل الحكومات في ظروف دقيقة ولما كنا سمحنا للسياسيين والقضاء بأن يتجاهلوا الحقيقة الكاملة بشأن جريمة 4 آب التي دمرت النفوس والعقول قبل المادة. ليست هنالك أعذار مقبولة.
احترام الحريات هي معركة دائمة في كل المجتمعات والذي يحميها هو الشعب بوعيه. في فرنسا مثلا، رأينا مؤخرا مطالبات واسعة في الشارع لالغاء بند في قانون جديد يمنع المواطنين من تصوير عمل الشرطة في المظاهرات وثم توزيع الصور والأفلام لضبط تصرفات الشرطة والأمن. قامت القيامة على الدولة وعلى وزير الداخلية تحديدا ولم تقعد بعد. جرى تعديل المادة 24 من القانون الجديد، لكن هذا لم يكف المتظاهرين واستمرت المطالبات بالالغاء الكامل.
معظم الحكومات في العالم تحاول تقييد الحريات اذا استطاعت، والذي يمنعها هو الشعب الواعي المطالب بحقوقه والذي يقوم بواجباته أيضا. لا نتكلم عموما عن هذا النوع من الصراعات الصامتة لكن الموجودة دائما في معظم الدول الأميركية اللاتينية والعربية والأسيوية وغيرها. ما رأيناه في هونغ كونغ وتايلاند مؤخرا يعبر بوضوح عن الصراعات الكبيرة حول الحريات والحقوق والتي تنعكس بسرعة على الاقتصادات في الاستثمار والنمو.
بما أن الحفاظ على الحريات ليس سهلا بل صراع دائم، وبما أن المطلوب دولة قوية فكيف يمكن الحفاظ على هذين النقيضين الضروريين؟ تكمن المشكلة في الطريق الضيق بين الدولة القوية والفوضى. الدولة القوية التي تحترم حقوق المواطن ضمن القوانين هي أفضل بكثير من الفوضى أو الحرية الزائفة بل الخطرة بالنسبة للاقتصاد والمستقبل. في لبنان، هنالك حريات لكنها أقرب الى الفوضى حيث تعني هذه الحريات عدم قيام المواطن بواجباته تجاه الدولة وكذلك عدم قيام الحكم والحكومة بواجباتهما تجاه المواطن. هذه حلقة مفرغة مدمرة مستمرة من 30 سنة وتحقق نتائجها اليوم في الوضع الذي نعيشه.
الحفاظ على الحريات صعب ويتطلب صراعا دائما لأن الحرية يمكن أن تغيب بسرعة ويحل محلها الظلم والقمع. الحفاظ عليها يدخل في صلب اهتمامات المجتمعات الواعية في الشرق والغرب. لا تنجح كل المجتمعات في تحقيق التوازن الفاضل بين السلطة القوية والمجتمع الحر مما يشير الى ضرورة وجود عوامل أخرى مهمة كالثقافة والتعليم والممارسات الواعية المزمنة. لا يختلف اثنان على أن دول تنجح في احترام مواطنيها وأخرى تفشل. يكون الاحترام في الاتجاهين والاثنين يبنيان على الحريات التي هي من طبيعة الانسان.
في مجتمعات معينة، يهرب المواطن من الأوضاع ويخاطر بحياته وحياة عائلته ليس فقط بسبب العوامل الاقتصادية بل أيضا وخاصة بسبب غياب الحريات والعدل وسوء المعاملة. نعرف هذا الواقع في منطقتنا وهذا ليس جديدا لكنه مستمر والمجتمعات لا تتعلم من التجارب المرة، ربما لأنها غير قادرة على التعلم والاستفادة. يقول الفيلسوف «جون لوك» انه حيث لا توجد قوانين، لا توجد حريات. هذا دور الدساتير حيث تحترم كل الحريات ضمن حدود واضحة مطبقة على الجميع. من لا يحترم الدستور يخسر، هذا هو دور السلطة القوية التي تحافظ على الحريات. في الوقت نفسه مهما كانت الدساتير واضحة، تطبيقها يتطلب وعي الشعب لها وبالتالي فرضه التطبيق على الجميع.
في لبنان، لنا دستورنا الذي يخرق كل يوم ونحن نتخبط في مشاكل وظروف خطرة والشعب يتجاهل الوضع بسبب الانقسامات المختلفة. ربما لا نقدر النتائج وربما نشعر بعدم القدرة على التصحيح. واقعا، ليست هنالك دساتير جيدة وأخرى سيئة بل هنالك شعوب تهتم وأخرى لا تهتم للتطبيق وتترك الحكام يسيئون اليها والى مستقبلها.
يقول الفيلسوف توماس هوبز في كتابه «اللفياتان» أي «الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة» ان دور الدولة هو الحفاظ على السلم والعدالة. المطلوب في رأيه دولة لها القدرة على فرض القانون، ضبط العنف، فض النزاعات وتأمين الخدمات العامة للناس من كهرباء ومياه وطرق وغيرها تضمنها جميعها مكونات المجتمع الواعية لحقوقها وواجباتها. من الاستئناءات الكبرى المدهشة هي الهند حيث يمكن وصفها بدولة فقيرة وحكم غير قادر على تلبية حاجات الشعب الكبيرة ونظام سياسي لا يعمل بفعالية وغير واضح. لكن الهند في نفس الوقت دولة ديموقراطية تعتمد على الانتخابات التنافسية ونرى بكل اعجاب الأعداد الكبيرة التي تصطف لانتخاب المجالس المختلفة. تصطف بكل هدؤ وتهذيب وتحترم النتائج أيا كانت. هذه الهند الكبيرة في مجتمعها وجامعاتها وانتاجية أفرادها تتنافس الدول المختلفة على استيرادهم للعمل والانتاج وتحقيق الاختراعات. الهند نموذج للمجتمع الفاضل أي الحامي للحريات ضمن القوانين والدستور.