في بداية الأحداث في سوريا سُئِل سياسي عربي مخضرم عن رأيه في ما ستؤول إليه تلك الأحداث، وهل ستأتي بالنتيجة نفسها التي أتت بها في بلدان أخرى كمصر وتونس وغيرهما؟
كان جواب هذا السياسي يومها «أنّ النظام في دمشق أقوى من أن يسقط وأضعف من أن يُسيطر»، وهي معادلة أغضبَت آنذاك غلاة الموالين والمعارضين في آن، إذ إنّ كلّ فريق كان يعتقد أنّ الأمور ستُحسَم لمصلحته خلال أسبوعين أو شهرين على أبعد تقدير.
ولقد كانت معادلة ذلك السياسي المخضرم تستند إلى قراءة دقيقة للواقع، قراءة تنطلق من أنّ للنظام قاعدة شعبية واسعة ويستند الى قوى عسكرية وأمنية ضاربة الجذور في الارض السورية، وهو جزء من محور اقليمي – عالمي لن يفرّط به في سهولة، على رغم كلّ ما كان يقال عن تغييرات منتظرة في الموقفين الروسي والايراني، لا بل كان النظام يستند الى قضية قويّة هي ثباته على موقفه القومي في القضايا العربية، ونجاحه في تصوير نفسه أنّه حامي الدولة السورية في مواجهة مصير غامض ينتظرها.
وكانت هذه المعادلة تدرك أيضاً أنّ قوى إقليمية ودولية لا يُستهان بقدراتها المالية والعسكرية والإعلامية تقف على الطرف الآخر من النزاع وتسعى الى استغلال المطالب المشروعة وربطها بعصبيات طائفية ومذهبية فعّالة وتتحرّك وفق زخم سبَّبته اندفاعة التغيير في المنطقة، وكانت مستعدّة لأن تبذل «الغالي والنفيس» لإسقاط النظام السوري ورئيسه، وكان يحرّكها في كلّ ذلك نموذج الحرب على السوفييت في أفغانستان من دون أن تُدرك أنّ السوفييت في تلك البلاد لم يكونوا أفغاناً، فيما النظام في دمشق مع مؤيّديه هم سوريّون أقحاحاً.
وكانت تلك المعادلة أيضاً تشي بأنّ سوريا أمام حرب استنزاف طويلة يجري خلالها تدمير منهجي للبشر والحجر، للمؤسسات والمصانع، للبنى والمرافق، للخيرات والموارد، حتى يصيبها الإنهاك وتتراجع عن مواقف لها ثابتة كانت دَيدنَها منذ استقلالها في أواسط الأربعينات، سواءٌ في وجه الاحتلال الاسرائيلي بكلّ تجَلّياته، أو ضد الأحلاف والمخططات الرامية الى تكريس الهيمنة الغربية على المنطقة.
ويومذاك نُقل عن الرئيس السوري بشّار الأسد أنّه قال لبعض زوّاره في بداية الأزمة أنّه يتوقّع لهذه الحرب أن تستمرّ سنوات عدّة، فنزاع والده الرئيس الراحل حافظ الأسد في بداية الثمانينات مع جماعة «الإخوان المسلمين»، كما نقل عنه يومها، استمرّ 5 إلى 6 سنوات، ولم يكن الحشد الإقليمي والدولي في تلك المرحلة بالشراسة ذاتها التي تظهر اليوم على الأرض السورية.
وما يؤكّد سلامة معادلة السياسي المخضرم إيّاه اليوم هو ما يسمّى حرب التحالف الإقليمي ـ الدولي ضد تنظيم «داعش» في سوريا والعراق. فمِن الواضح أنّ هذه الحرب تضع لنفسها سقفاً زمنياً يراوح بين عشر سنوات و30 سنة، وهي تدور وفق معادلة تقول: «حرب لا تنهي «داعش» ولكن لا تبقيها مرتاحة».
فمثل هذه الحرب تؤجّج الحرب الكبرى على سوريا فالعراق من حيث أن يتمّ قصف كلّ مصادر الحياة في البلدين لإلغائهما ككيانين مستقلّين من الخريطة تمهيداً لانتقال هذه الحرب إلى دوَل عربية رئيسية أخرى، ولا سيّما منها مصر ودول في منطقة الخليج العربي.
وفي هذه الحرب الجديدة لا يتمّ استنزاف العراق وسوريا فقط، بل يجري ابتزاز كلّ الدول النفطية باسم تمويل الحرب على الإرهاب، ومن أجل تحريك الصناعات العسكرية الاميركية بهدف تحريك الاقتصاد الاميركي كلّه. فلحرب التحالف إذن وظيفة محدّدة لا تنحصر بما يسمّيه «مكافحة الإرهاب»، بل هي غطاء جديد لسلب موارد المنطقة وخيراتها لحلّ أزمات في واشنطن ونيويورك وشيكاغو وسياتل وغيرها من مدن الصناعة الأميركية.
ويلفت هذا السياسي المخضرم إلى انخفاض سعر النفط كأحد مظاهر الارتباط بين الحرب على «داعش» وبين الأهداف الاقتصادية الأخرى لهذه الحرب، والتي تحتاج إلى ندوات وأبحاث مركّزة لكشفِ جوانبها. فعلى الرغم من أنّ واشنطن توحي بأنّ انخفاض سعر النفط سيؤثر على الاقتصاد في إيران وروسيا خصوصاً، وأنّه شكلٌ آخر من العقوبات الاقتصادية ضد البلدين، فإنّ مَن يقف وراء هذا الانخفاض ينسى أنّ دوَلاً حليفة لواشنطن ستتكبّد خسائر كبرى أيضاً، بل إنّ كلّ مشاريع الطاقة البديلة في داخل الولايات المتحدة والتي تمّ الترويج لها كثيراً في الفترة الاخيرة، ستصبح غير اقتصادية مع انخفاض أسعار النفط، وبالتالي فإنّ الخسائر ستطاول الجميع في الإقتصاد مثلما تطاول الجميع ايضاً في الأمن والسياسة.
فمن يا ترى يستطيع أن يوقف هذه الانهيارات على كلّ المستويات، وأن يحفظ للانسان في هذه المنطقة حياته وكرامته وإنسانيته؟